أسطورة المحرقة "الهولوكوست"
المؤرخون المراجعون في أوروبا والولايات المتحدة، وهم غير المؤرخين المراجعين في الكيان الصهيوني، مجموعة من المثقفين والعلماء والمناضلين الذين يذهبون مذاهب إيديولوجية مختلفة ويجتمعون على موقف مشترك هو دحض الأساطير المؤسسة للصهيونية وعلى رأسها المحرقة، أو "الهولوكوست" اليهودية.
المؤرخون المراجعون لا يقولون إن اليهود لم يذبحوا في الحرب العالمية الثانية في أوروبا، ولكنهم يفندون المزاعم الصهيونية التي تدّعي بأن قتل اليهود ليس له مثيل في التاريخ البشري، وبأن قتلهم جاء ضمن سياق برنامج نازي ألماني منهجي لإبادتهم. فعلى العكس من ذلك، اثبت العلماء المراجعون بطلان الادعاءات الصهيونية حول قضاء ملايين اليهود في غرف غاز مزعومة محكمة الإغلاق. كما كشف الباحثون المراجعون زيف الأرقام التي تقدمها مؤسسات مثل مركز سيمون وايزنثال الصهيوني في الولايات المتحدة حول الذبح الخيالي لستة ملايين يهودي، وأوضح الكتّاب المراجعون كيف مات بضع مئات الآلاف من اليهود في الحرب العالمية الثانية كما مات غيرهم، في حرب وصل عدد ضحاياها إلى خمس وأربعين مليون قتيل، منهم اثنين وعشرين مليون سوفياتي مثلا، ما عدا الجرحى والمشردين والمشوهين.
دفع المؤرخون المراجعون مقابل موقفهم هذا أثماناً غالية، كما دفع من قبلهم كل من وهب حياته لنشر الحقيقة، فتعرضوا لعمليات اغتيال، وللطرد من العمل في مراكز أبحاثهم وجامعاتهم، ولدفع غرامات مجحفة، ولحملات تشهير، ولحصار اجتماعي، واضطهاد سياسي مريع، لأنهم تجرأوا على المس بالأساطير الصهيونية التي تبرر وجود دولة "إسرائيل" والسياسات التي تنتهجها هذه الدولة. كل هذا طبعا في الغرب الذي يتبجح بالتزامه بمبادئ حقوق الإنسان والحيوان والنبات، والذي غالبا ما يغطي تدخلاته في العالم الثالث بعباءة الدفاع عن هذه الحقوق. ولكن ما يحق للصهاينة لا يحق لغيرهم، والمؤرخون المراجعون كانوا ومازالوا بصدد القيام بما لا يقل عن انتفاضة في ميدان التأريخ للقرن العشرين، لذلك حق عليهم أن ينالهم ما ينالهم من سخط الصهاينة وحكومات الدول الغربية.
إن حساسية أسطورة "المحرقة اليهودية"، وحق أن نسميها "المخرقة اليهودية"، تنبع من عوامل كثيرة أهمها:
إن إثارة ما يسمى بالمحرقة أو "الهولوكوست" بشكل يومي وواسع في وسائل الإعلام والترفيه والتعليم الغربية، رغم مرور اكثر من خمس وخمسين عاما على ما زعموا، يطرح بشكل ماثل ضرورة إيجاد ملجأ آمن لليهود في مكان ما من هذا العالم. حتى أن الاعتراف بالمحرقة أصبح يعادل الاعتراف بضرورة وجود "إسرائيل"، وليس فقط حقها بالوجود.
إن المبالغة بشأن ما يسمى بالمحرقة، والمغالاة في هذه المبالغة، وجميع هذه الترهات عن الأهوال التي لاقاها اليهود بشكل فريد من بين غيرهم من الأمم (لاحظوا الفرضية الخاطئة هنا بأن اليهود قومية أو شعب متجانس، وليس ديانة مثل الإسلام أو المسيحية أو البوذية تنضوي تحت لوائها مجموعة من الشعوب والقوميات)، تقدم كلها مبررات للحركة الصهيونية ولدولة "إسرائيل" لتجاوز كل الأعراف والقوانين والشرائع الدولية والدينية والدنيوية، تحت حجة أن أي شي يفعلونه من اغتصاب فلسطين إلى مجازر صبرا وشاتيلا إلى محمد درة، قليل قياسا بما لاقوه من ظلم. ومن أراد أن يفهم ردة فعل الرأي العام الغربي الضعيفة تجاه ما يرتكبه الصهاينة، فإن عليه أن يبدأ بهذه المسألة، مسألة موقع المحرقة الأسطوري كما كرسه الصهاينة في العقل الجمعي الغربي.
إن المحرقة المزعومة أصبحت كنزاً لا يفنى بالنسبة للحركة الصهيونية من حيث كونها أداة لابتزاز الدعم العاطفي والمالي والسياسي لدولة الكيان الصهيوني ولمواقف الحركة الصهيونية. إذ لولا أموال التعويضات لما استمرت الحركة الصهيونية. وما زالت عمليات الابتزاز باسم ضحايا اليهود في المحرقة المزعومة مستمرة.
ولا يعتقدن أحد بأن أسطورة المحرقة مهمة بالنسبة للحركة الصهيونية وحدها، فهي لا تقل أهمية بالنسبة لمراكز صنع القرار السياسي والاقتصادي في الغرب لتبرير السياسات الداعمة للصهيونية أمام شعوبها، إذ لا يجوز أن نبرأ قوى الهيمنة الخارجية من الجرائم التي ترتكبها لتحقيق مصالحها في بلادنا تحت حجة أن الصهيونية ساقتها إلى هذه السياسات وأنها مغلوب على أمرها. فالعكس هو الصحيح، فأسطورة المحرقة تساعد حكومات الغرب وشركاته الكبرى على تبرير سياساتها الإجرامية في بلادنا أمام شعوبها، ومن هنا تأتي خطورة المؤرخين المراجعين.
المهم، عقد المؤرخون المراجعون العزم على القيام بمؤتمر لهم في بيروت بين 31 آذار و 3 نيسان عام 2001، فاجتمعت عليهم كل الحركة الصهيونية بيمينها ويسارها وحكومة الولايات المتحدة والحكومات الأوروبية وبعض الحكومات العربية بهدف وأد مؤتمر تم اختيار مكانه لإبداء التضامن مع الشعب اللبناني بعد تحرير جنوبه، ومع الانتفاضة الفلسطينية. ومع أن لا علاقة للدولة اللبنانية بهذا المؤتمر، باعتبار الجهات التي ترعاه جهات غير رسمية، فأن وزارة الخارجية الأمريكية والحكومات الأوروبية فرضت على الحكومة اللبنانية أن تمنع المؤتمر بالقوة، وكانت حكومة السيد رفيق الحريري مطواعة، سهلة القياد، لينة تحت الضغوطات، فمرّغت بذلك سجلها ولطخت وجهها الوطني بالوحل.
لكن هذا الهوان ليس أسوأ ما في الأمر، فقد تعودنا على سلوكيات الأنظمة العربية، ولا يجوز أن نتعود عليها. إن أسوأ ما في قصة إلغاء مؤتمر المؤرخين المراجعين المؤيدين للقضية العربية في بيروت هو البيان الذي أصدرته حفنة من المثقفين العرب الطامحين بالعالمية واللاهثين وراء جائزة نوبل والمدعين الدفاع عن حرية الرأي والتعبير. هؤلاء أصدروا بياناً هللت له وسائل الإعلام الغربية والصهيونية، طالبوا فيه الحكومة اللبنانية بالتدخل لمنع مؤتمر المؤرخين المراجعين "المعادي للسامية وغير المقبول"