[rtl]بسم الله الرحمن الرحيم[/rtl]
[rtl]من الظّواهر المعاصرة الخطيرة والّتي ما فتئت تزداد وتنتشر في مجتمعاتنا العربية والإسلامية الاعتداء على المال العام، فلقد فَشَتْ في دنيا النّاس اليوم صُوَرٌ كثيرة في تَعَدِّيهم[/rtl]
[rtl]على المال العام، والقليل منهم الّذي يَنتبه لهذه الصّور.[/rtl]
[rtl]إنَّ مِن أخطَر القضايا الّتي تُهدِّد الأمنَ الاجتماعي والاقتصادي والسّياسي، الاعتداء على المال العام، والّتي أخَذتْ صُوَرًا شتَّى منها: السَّرِقات والرِّشوة والغلول والغشّ وخيانة الأمانة والاختلاس، وهو استيلاء الموظَّفين والعاملين في مكان عملهم على ما في أيديهم من أموال نقديَّة دون سندٍ شرعي والتهرُّب من سداد القروض وسرقة الكهرباء من الدولة بحجَّة أنَّها لا تُعطي المواطن حقَّه كاملاً. واستعمال الأشياء الخاصة بالعمل لأغراض شخصيَّة غير خاصَّة بالعمل. وعدم إتقان العمل وإضاعة الوقت والتربُّح من الوظيفة واستغلال المال العام لأغراضٍ سياسيَّة. والمجاملة في ترسِيَة المناقصات على شخصٍ بعينه، ويوجَد مِن بين المتقدِّمين مَن هو أفضلُ منه. والحصول على عمولة من المشتري أو من المورِّد أو مَن في حُكْمهم نَظِير تسهيل بعض الأمور دون عِلْم المدير أو المسؤول، واستخدام الممتلكات الخاصة بالعمل استخدامًا شخصيًّا مثل الكمبيوتر والسيارة وأدوات الكتابة، دون استئذانِ الجهة المالكة. والتصرُّف في المال الموقوف للمسجد واستعماله في أغراض شخصيَّة وغير ذلك..[/rtl]
[rtl]أمّا الأسباب المؤدِّيَة إلى الاعتداء على المال العام فهي كثيرة أهمّها قلّة الإيمان عند المعتدي وضعف الوازع الدّيني وانعدام الْمُروءة، والْجَهل بأحكام الله عزّ وجلّ، وعدم تطبيق أحكام ومبادئ دين الإسلام العظيم. وضَعْف النُّظم والأجهزة المنُوطَة بحمايته وتقصير وَلِيِّ الأمر في القيام بالمسؤوليَّات الّتي حَمَّلَه الله إيَّاها، وضَعْف القِيَم الإيمانيَّة وعدم الالتزام بالأمانة والصِّدق، والعِفَّة والنَّزَاهة وتَفَشِّي المحسوبيَّة والمجاملات الشخصيَّة.[/rtl]
[rtl]حكم الاعتداء على المال العام[/rtl]
[rtl]إنَّ الله سبحانه حرَّم الاعتِداء على مال الغير بأيِّ نوعٍ من العُدوان، وجعَلَه ظُلمًا يكون ظلمات يوم القيامة، ووضَعَ له عقوبات دنيويَّة بالحدِّ أو التّعزير بما يتناسب وحَجْم الاعتداء وخطورته، فإنّه حرَّم علينا الاعتداء على الممتلكات العامَّة الّتي ليس لها مالِكٌ معيَّنٌ، فهي مِلْكٌ للجميع، ولكلٍّ فيها قدرٌ ما يجبُ احترامه، والظُّلم فيه ظُلمٌ للغير وللنّفْس أيضًا، والله لا يحبّ الظّالمين.[/rtl]
[rtl]لقد قال الله في الغنائم الّتي هي مِلْك للعامَّة: “وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ” آل عمران:161، وقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيمَن استغلَّ وظيفتَه ليكْسِبَ بها لنفسه، حينما جاء بما جَمَعه من الصَّدقات المفروضة، واحتجزَ لنفسه الهدايا الّتي قُدِّمَتْ إليه، قال: “هلاَّ جَلَس في بيت أبيه وأُمِّه؛ حتّى ينظرَ أيُهْدَى إليه أم لا”،وحذَّر من مَجيء هذه الأموال المختلسة شاهِدَ إدانة عليه يوم القيامة يَحملها على ظَهْره، ولا مُجير له يدافعُ عنه، كما بيَّن أنَّ مَن وُلِّيَ على عملٍ وأخَذَ أَجْره، كان ما يأخذه بعد ذلك غُلولاً.[/rtl]
[rtl]والخلفاء الرّاشدون والسّلف الصّالح كانوا قُدوة طيِّبة في التعفُّف عن الأموال العامَّة، الّتي هي حقُّ المسلمين جميعًا، فكانوا لا يأخذون من بيت المال إلاَّ حاجتهم الضّروريَّة كما قال أحدُهم: أنا في مال المسلمين كوَلِي اليتيم، حيث يقول الله تعالى: “وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ” النّساء:6.[/rtl]
[rtl]ورَحِم الله عمر بن عبد العزيز سليل الأماجِد الطّاهرين، الّذي كان ينظرُ في أمور الرّعيَّة على ضوء مصباح في بيته، فلمَّا انتهى وبدأ النّظرَ في أموره الخاصَّة، أطْفَأَ المصباح حتّى لا يستعمل مالَ المسلمين في غير ما هو لعامَّة المسلمين. لقد كانتْ لسلفنا مواقفُ رائعة في تعفُّفهم عن المال العام ليَضربوا المثلَ لغيرهم على مدى التّاريخ، ووقفوا بقوَّة أمام التصرُّفات الّتي يظنُّ أنَّ فيها مسَاسًا بأموال المسلمين، فصادروا ما رأوه من هذا القبيل، وأوْدَعوه بيت المال، إنّه لا يعصم من الانحرافِ بخصوص المال العامِّ إلّا رقابةُ الله تعالى الّذي لا تَخفى عليه خافيةٌ في الأرض ولا في السّماء، وإلاَّ الإيمانُ بأنَّ كلَّ لحمٍ نَبَت من سُحْتٍ، فالنّارُ أوْلَى به، وإلاَّ حُسْنُ اختيار من تُوكَل إليهم الأمور على أساس الخبرة والأمانة؛ كما قال يوسف للعزيز: “اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ” يوسف:55.[/rtl]
[rtl]إنّ الاعتداء على المال العام أمرٌ خطير، وذنبٌ عظيم، وجُرْمٌ كبير، والواجبُ على مَن أخَذَ منه شيئًا أنْ يتوبَ إلى الله تعالى وأنْ يَرُدَّ ما أخَذَ، لأنَّ الأصلَ في المال العام أو شِبه العام ونعني به مال الدولة والمؤسَّسات العامَّة والشّركات الخاصَّة هو المنْعُ، وخصوصًا أنَّ نصوصَ الكتاب والسُّنّة قد شدَّدتِ الوعيد في تناول المال العام بغير حقٍّ، وقد جعَلَ الفقهاءُ المالَ العام بمنزلة مال اليتيم في وجوب المحافظة عليه وشِدَّة تحريم الأخْذِ منه.[/rtl]
[rtl]والقائم بالاعتداء على المال العام بسرقة أو نهب ونحوه، مُعْتَدٍ على عموم المسلمين لا على الدولة فقط، ومَن أخَذَ شيئًا من هذا، فإنّه لا يَملكه، والواجب عليه رَدُّه إلى بيت المال أو خزينة الدولة لِمَا روى أحمد وأبو داود والتّرمذي عن سَمُرة بن جُنْدَب رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: “على اليدِ ما أخَذَتْ، حتّى تُؤَدِّيَه”، وقال ابن قُدامة: “إذا ثبَتَ هذا، فمَن غصب شيئًا، لَزِمَه رَدُّه إنْ كان باقيًا بغير خِلافٍ نَعْلَمه”.[/rtl]
[rtl]المصدر[/rtl]
[rtl]الدكتور عبد الحقّ حميش[/rtl]
[rtl]كلية الدراسات الإسلامية/ قطر[/rtl]