| أمثال قرآنية ... وقفات لا مثيل لها | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
القرش مدير المنتدى
عدد المساهمات : 11377 تاريخ التسجيل : 21/03/2009 العمر : 35
| موضوع: أمثال قرآنية ... وقفات لا مثيل لها 15/8/2011, 1:48 am | |
| السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أضع اليوم بين ايديكم
مجموعة من الأمثال التي وردت في كتاب الله عز وجل
فهيا لنعش معا في هذه الوقفات الرائعة
| |
|
| |
القرش مدير المنتدى
عدد المساهمات : 11377 تاريخ التسجيل : 21/03/2009 العمر : 35
| موضوع: رد: أمثال قرآنية ... وقفات لا مثيل لها 15/8/2011, 1:50 am | |
| كذلك يضرب الله الحق والباطل
تناولت الأمثال القرآنية كثيرًا من القضايا التي تحيط بالإنسان في هذه الحياة؛ كقضايا الكفر والإيمان، والإيمان والنفاق، والهدى والضلال، والعلم والجهل، والخير والشر، والغنى والفقر، والحياة الدنيا والحياة الآخرة، وغير ذلك من القضايا .
ومن بين تلك القضايا التي تناولتها الأمثلة القرآنية قضية الحق والباطل، قال تعالى: { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال } (الرعد:14) .
هذه الآية الكريمة في جملتها تبين أن الذي يصح ويبقى في هذه الحياة، وينتفع به الناس غاية الانتفاع إنما هو الحق. وبالمقابل فإن كل ما كان خلاف ذلك من أنواع الباطل لا وزن له ولا قيمة ولا اعتبار، وسرعان ما يزول ويضمحل .
فهذه الآية تضمنت مثلين حسيَّين، يراد منهما إيصال فكرة واحدة، مفادها: أن الحق هو المنتصر في النهاية، وهو صاحب الكلمة الفصل في معركة الحياة، وأن الباطل هو الخاسر والمنهزم في المحصلة؛ فالمثل الأول وهو قوله تعالى: { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا } مضروب للماء الذي يُنـزله الله من السماء، فيتدفق في الأرض، فيملأ الأودية التي تشكل سيولاً جارفة، تحمل معها كل ما تصادفه في طريقها من القش والورق والفضلات وغير ذلك مما لا قيمة له في الحقيقة. ثم إن هذه السيول الجارفة تشكل على سطحها رغوة بيضاء على شكل فقاعات، سرعان ما يتلاشى شكلها، وينطفئ لونها. ويبقى الماء وحده هو الذي ينتفع به الناس، حيث يرفد الأنهار، ويغذي الينابيع، ويحمل معه الخير، فيحلُّ الخصب بعد الجدب، والنماء بعد القحط، والخير بعد الشح .
والمثل الثاني هو قوله تعالى: { ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله } ضربه سبحانه للنار الحامية التي تعرض عليها المعادن بأنواعها، ومنها الذهب والفضة، بقصد إزالة شوائبها وما خبث فيها، وفي أثناء عرضها على تلك النار تطفو على سطحها طبقة سائلة أشبه بالرغوة البيضاء التي تطفو على سطح الماء، لكنها سرعان ما تتلاشى في الهواء وتضمحل هنا وهناك، ويبقى جوهر المعدن الأصيل الذي ينتفع به الناس، فيصنعون منه أدواتهم، ويستعينون به على قضاء حوائجهم .
كذلك الحق والباطل في هذه الحياة؛ فالباطل قد يظهر، ويعلو، ويبدو أنه صاحب الجولة والكلمة، لكنه أشبه ما يكون بتلك الرغوة البيضاء التي تطفو على سطح ماء السيل، والمعدن المذاب، سرعان ما تذهب وتغيب، من غير أن يلتفت إليها أحد. في حين أن الحق، وإن بدا لبعضهم أنه قد انزوى أو غاب أو ضاع أو مات، لكنه هو الذي يبقى في النهاية، كما يبقى الماء الذي تحيى به الأرض بعد موتها، والمعدن الصافي الذي يستفيد منه الناس في معاشهم حلية أو متاعاً .
على أن في الآية الكريمة - غير ما تقدم - وجهاً آخر من التمثيل، ذكره بعض أهل العلم، وهو أن الماء الذي ضرب الله به المثل في هذه الآية، إنما المراد منه العلم والهدى الذي يبعثه الله على عباده عن طريق أنبيائه ورسله ودعاته، فيأخذ الناس منه حظهم، بقدر ما ييسرهم الله له، ويوفقهم إليه. فتكون عناصر التمثيل في هذه الآية - بحسب هذا الوجه - وفق التالي: الماء مراد به العلم والهدى. والأودية مراد منها القلوب التي تتلقى العلم والهدى. وسيلان الأودية بقدرها مراد منه حظ القلوب في قبول وتلقي ذلك العلم. والزبد الذي يطفو على سطح الماء والمعادن مراد منه الأباطيل والشكوك والشبهات والشهوات التي تنتاب الإنسان. وما يبقى من الماء الصافي بعد مضي السيل، والمعدن النقي بعد عرضه على النار مراد منه الحق الذي يبقى على مر الأيام والسنين؛ لأن من صفاته الثبات ومن خصائصه البقاء .
ووجه التمثيل - وفق هذا المسلك - أن السيل الجارف والمعدن المذاب كما يذهب زبدهما هنا وهناك، من غير اكتراث ولا اهتمام، فكذلك الأباطيل والشكوك تذهب من قلب المؤمن وتتلاشى ليحل مكانها الإيمان والهدى، الذي ينفع صاحبه، وينتفع به غيره .
وقد روى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله في هذه الآية: هذا مثل ضربه الله، احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها. فأما الشك فلا ينفع معه العمل، وأما اليقين فينفع الله به أهله، وهو قوله: { فأما الزبد فيذهب جفاء }، وهو الشك، { وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض }، وهو اليقين، كما يجعل الحلي في النار، فيؤخذ خالصة، ويترك خبثه في النار. فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك .
وعلى نحو هذا التمثيل في الآية جاء قوله صلى الله عليه وسلم: ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضاً فكان منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ) متفق عليه .
والذي يستفاد من التمثيل الوارد في الآية جملة أمور:
أولها: أن العاقبة للمؤمنين، وأن الحق منتصر لا شك في ذلك، وإن كان الواقع يدل على غير ذلك؛ وأن الباطل لا محالة زائل، وإن كان في يوم من الأيام ممسكاً بالراية ورافعاً لها .
ثانيها: أن العمل الصالح هو الذي يبقى لصاحبه، وهو الذي يرجى منه الخير في الدنيا والآخرة، وأن العمل السيئ يذهب ولا يفيد صاحبه شيئاً .
ثالثها: أن العلم والهدى هو الذي ينفع المؤمن في هذه الحياة، وأن الشك والباطل لا يغنيا ولن يغنيا من الحق شيئاً .
أخيراً، يقول ابن القيم : إن من لم يفقه هذين المثلين ولم يتدبرهما ويعرف ما يراد منهما فليس من أهلهما .
وقد قال بعض السلف: كنت إذا قرأت مثلاً من القرآن فلم أفهمه، بكيت على نفسي؛ لأن الله تعالى يقول: { وما يعقلها إلا العالمون } (العنكبوت:43) . | |
|
| |
القرش مدير المنتدى
عدد المساهمات : 11377 تاريخ التسجيل : 21/03/2009 العمر : 35
| موضوع: رد: أمثال قرآنية ... وقفات لا مثيل لها 15/8/2011, 1:52 am | |
| مثل الذي لا ينتفع بما آتاه الله من الهدى
من أساليب القرآن لإيصال الأفكار، وتبليغ المعتقدات، تمثيل المعقول بالمحسوس، وتشبيه المجرد بالمجرب، وقياس الغائب على الشاهد، ونحو ذلك من الأساليب؛ فأنت واجد في القرآن مثل الأعمى والبصير، ومثل الشجرة الطيبة والشجرة الخبيثة، ومثل الزرع المثمر والزرع المصفر، ومثل الحمار والكلب والذبابة والعنكبوت، ونحو ذلك من الأمثلة المحسوسة والمشاهدة .
ومن قبيل التمثيل بالمحسوس، ما ضربه الله مثلاً للذين لا يعملون بعلمهم، والذين يُعرضون عن الهدى الذي جاءهم من ربهم؛ يقول تعالى في معرض ذم اليهود: { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين } (الجمعة:5) .
فبعد أن بيَّن سبحانه وتعالى ما امتنَّ به على عباده المؤمنين، من بعثة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وتعليمهم الكتاب والحكمة، ضرب مثلاً لليهود الذين أوتوا التوراة فيها هدى ونور، إلا أنهم لم ينتفعوا بها، واقتنعوا من العلم بأن يأخذوا منها ظاهرها دون حقيقتها، وأن يقرؤوها من غير أن يفهموها، وأن يحفظوها من غير أن يعملوا بما فيها، وهم في كل ذلك يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً، وهم في واقع الأمر وحقيقته، ليسوا على شيء، فهم يأخذون من التوراة ظاهرها، وهم عن حقيقتها غافلون .
وقد شبه سبحانه فعل اليهود، وموقفهم من التوراة، بحال حمار يحمل كتباً كثيرة، فيها من العلم النافع الكثير الكثير، غير أن هذا الحمار لا حظ له من هذا العلم الذي يحمله على ظهره، وهو شاق عليه لثقل وزنه، ولا يناله من هذا الحِمل إلا التعب والمشقة .
ومع أن هذا الحمار الذي يحمل من الأسفار ما يشق عليه، غير ملوم على عدم علمه بمضمون ما يحمل؛ لأنه حمار؛ فإن اليهود بما أوَّلوا من التوراة، وبما حرفوا منها وبدلوا، أسوأ حالاً من الحمير؛ لأن الحمار لا فهم له في أصل خلقته، ولا يعرف من الدنيا إلا أنه وسيلة لحمل الأثقال ونقلها، وهؤلاء اليهود على الرغم مما آتهم الله من العقول، إلا أنهم لم يستعملوها فيما يرضي الله، بل استعملوها فيما يغضبه؛ لذلك كانوا { كالأنعام بل هم أضل } (الأعراف:179) فهم أسوأ حالاً من الأنعام، ولا شك أنهم أسوأ مآلاً .
وهذا المثل القرآني وإن كان مضروباً لتمثيل حال اليهود وبيان موقفهم من التوراة، إلا أنه أيضاً صالح لكل من يقف من القرآن هذا الموقف السلبي، فيكتفي منه أن يجعل منه زينة في بيته، أو سيارته، أو مكتبه، أو متجره، من غير أن يعمل به في حياته؛ أو يكتفي منه بالحفظ والتلاوة دون أن يُحكِّمه في تصرفاته وأفعاله .
روى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما، في قوله تعالى: { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا }، قال: فجعل الله مثل الذي يقرأ الكتاب، ولا يتبع ما فيه، كمثل الحمار يحمل كتاب الله الثقيل، لا يدري ما فيه .
قال القرطبي: وفي هذا المثل تنبيه من الله تعالى لمن حمل الكتاب أن يتعلم معانيه، ويعلم ما فيه؛ لئلا يلحقه من الذم ما لحق هؤلاء. وينطبق عليه قول مروان بن أبي حفصة:
زوامل للأشعار لا علم عندهم بجيِّدها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا بأوساقه أو راح ما في الغرائر وقال ابن القيم: " فهذا المثل وإن كان قد ضُرب لليهود، فهو متناول من حيث المعنى لمن حمل القرآن فترك العمل به، ولم يؤد حقه، ولم يرعه حق رعايته " .
فمن كان حاله كذلك، انطبق عليه المثل انطباقه على اليهود، وربما كان وجه الانطباق على المسلم أشد وأقوى؛ لأن القرآن هو آخر الكتب السماوية، فهو أولى بالاتباع، وأحق بالتمسك به؛ لأنه ناسخ لما سبقه من الكتب، ومهيمن عليها .
ثم إن مضمون هذا المثل وفحواه ذو صلة وثيقة بشكوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي عبر عنها القرآن الكريم بقوله: { وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا } (الفرقان:30)؛ فعدم الأخذ بالقرآن منهج عمل ودستور حياة، صورة من صور هجرانه، وحفظ القرآن من غير العمل بما فيه، صورة أخرى من صور هجرانه، وكل هذا يصدق عليه، ما جاء في هذا المثل القرآني .
فلا ينبغي للمسلم ولا يليق به بحال، أن يكون كاليهود الذي قرؤوا التوراة ولم يعملوا بما فيها، بل عملوا بخلاف ما فيها، فضُربت عليهم الذلة والمسكنة، وباؤوا بغضب من الله، وخسروا في الدنيا قبل الآخرة، وحق عليهم قوله سبحانه: { بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله } (الجمعة:5)؛ فذمهم الله على موقفهم ذلك، وجزاهم بما عملوا أن أبعدهم عن سابغ رحمته، وجميل فضله .
| |
|
| |
القرش مدير المنتدى
عدد المساهمات : 11377 تاريخ التسجيل : 21/03/2009 العمر : 35
| موضوع: رد: أمثال قرآنية ... وقفات لا مثيل لها 15/8/2011, 1:56 am | |
| فيه شركاء متشاكسون
ضرب الأمثال للناس أسلوب قرآني اعتمده القرآن لتقريب الحقائق للناس، ليفرقوا بين ما هو حق فيتبعوه، وما هو باطل فيجتنبوه، وليميزوا بين ما هو خير فيتمسكوا به، وما هو شر فيبتعدوا عنه، فأنت تجد في القرآن أمثال أهل الخير وأهل الشر، وأمثال أهل الحق وأهل الباطل، وأمثال أهل التوحيد وأهل الشرك، قال تعالى: { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون } (الزمر:27) .
ومن الأمثال القرآنية التي ضربها الله للناس مثالاً لأهل التوحيد وأهل الشرك، قوله تعالى: { ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا } (الزمر:29)، قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وغير واحد: هذه الآية ضُربت مثلاً للمشرك والمخلص .
و(التشاكس) في اللغة: شدة الاختلاف والتنازع؛ يقال: الليل والنهار متشاكسان، أي: أنهما متضادان ومختلفان، إذا جاء أحدهما ذهب الآخر. و(رجلاً سَلَمًا) أي: سالماً لرجل خالصاً، لا يملكه أحد غيره .
وقد جاء هذا المثل القرآني في سياق الحديث عمن شرح الله صدره للإسلام، فعرف طريق الحق، فآمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، ومن ضلَّ عن طريق الهداية فقسا قلبه، فكان في ضلال مبين، قال تعالى: { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين } (الزمر:22) .
فبعد أن بالغ سبحانه في تقرير وعيد الكفار، أتبع ذلك بذكر مثل يدل على فساد مذهبهم، وقبح طريقتهم، مبيناً حال العبد الموحد الذي يعبد الله وحده، ولا يشرك معه أحداً من خلقه، وحال العبد المشرك الذي يعبد شركاء عدة، لا يعرف كيف يرضيهم جميعاً .
ووجه التمثيل أن سبحانه شبه حال المشرك الذي يعبد آلهة متعددة، بحال عبد له أكثر من سيد يخدمه ويطيعه، فكل واحد منهم يأمره بما لا يأمره به الآخر، فيعضهم يقول له: افعل، وبعضهم يقول له: لا تفعل؛ وبعضهم يقول له: أقبل، وبعضهم يقول له: لا تُقبل...فهو حائر في أمرهم، لا يدري أيهم يرضي، فإن أرضى هذا أغضب ذاك، فهو لأجل هذه الحال يعيش في عذاب دائم، وتعب مستمر .
أما مثل حال المؤمن الموحد فقد شبهه سبحانه بحال العبد الذي يعمل تحت إمرة سيد واحد، فلا أمر لأحد عليه إلا أمر ذلك السيد، ولا نهى لأحد عليه إلا نهي ذلك السيد، فهو مطيع له على كل حال، وهو ساع لكسب وده ونيل رضاه من غير ملال. ثم هو غير مشتت الهوى، ولا مبعثر القوى؛ لأن وجهته واحدة غير متعددة، ومقصوده واحد غير متناقض .
والمراد من هذا التمثيل بيان حال من يعبد آلهة متعددة، فإن أولئك الآلهة تكون متنازعة متغالبة، كما قال تعالى: { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } (الأنبياء:22)، وقال سبحانه: { وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض } (المؤمنون:91)، فيبقى ذلك المشرك متحيراً ضالاً، لا يدري أي هؤلاء الآلهة يعبد، يدعو هذا ثم يدعو ذاك، لا يستقر له قرار، ولا يطمئن قلبه في موضع، فهو حائر مشتت القلب والذهن؛ بخلاف الموحد فهو في راحة تامة وطمأنينة كاملة. وهكذا سُنَّة الحياة جارية على أن تعدد الرؤساء يفسد الأمر، ويشتت السعي .
ولا شك فإن هذين العبدين غير مستويين في المنـزلة وغير مستويين في الخدمة، ولا يمكن لعاقل أن يصرح باستوائهما؛ لأن أحدهما في منـزلة محمودة، والآخر في منـزلة مذمومة غير محسودة؛ وذلك أن العبد الذي يخدم عدة شركاء، يريد كل واحد منهم أن يستخدمه لحسابه الخاص قدر المستطاع، ولو كان ذلك على حساب تقصيره في خدمة الآخرين، وبالتالي فإن المهمة على هذا العبد تكون مضاعفة، وهو مع هذا لا ينال من الرضا شيئاً يذكر، بل الغاضب عليه أكثر من الراضي، والذامِّ له أكثر من الشاكر .
ثم إن من كانت هذه حاله لا يمكن أن تُستجاب مطالبه إلا بشق الأنفس، ولا يمكن أن تُقضى حاجاته إلا بجهد جهيد؛ لأن كل شريك من الشركاء يتهرب من تقديم العون له، ويحيله على غيره من الشركاء .
أما الأمر في حق من يخدم سيداً واحداً فهو مختلف تماماً، فإن جهده محدود، وعمله واضح، والعادة من سيده أن يستجيب لحاجاته، ويُقدم له من العون قدر ما يستحق، فكانت منـزلته أحمد، وخدمته أقصد .
قال الرازي: " وهذا مثل ضرب في غاية الحسن في تقبيح الشرك وتحسين التوحيد "؛ إذ المقصود من ضرب هذا المثل إقامة الحجة على المشركين، وتعنيفهم لأجل مواقفهم الرافضة للاعتراف بالواحد الأحد، وكشف سوء حالتهم في الإشراك .
وهذا المثل كما أن المراد منه تمثيل حال المؤمن الموحد وحال الكافر المشرك، فهو كذلك يصلح مثلاً لكل متبع للحق، ولكل متبع للباطل؛ فإن الحق هو كل ما وافق الواقع، والباطل هو كل ما خالفه، فمتبع الحق لا يعترضه ما يشوش عليه باله، ولا ما يثقل عليه أعماله، ومتبع الباطل يتعثر به باطله في مزالق الخطى، ويتخبط في أعماله بين تناقض وخطأ .
وحاصل هذا المثل القرآني: أن من وحد عبوديته لله سبحانه، وأخلص له في عبادته، واتبع الحق الذي أمر به، كان في الدنيا سعيداً رضياً، وفي الآخرة فائزاً مرضياً؛ أما من أشرك مع الله آلهة أخرى، فقد ضل سواء السبيل، وعاش دنياه حائراً غير آمن، فهو خاسر للدنيا قبل خسران الآخرة .
| |
|
| |
القرش مدير المنتدى
عدد المساهمات : 11377 تاريخ التسجيل : 21/03/2009 العمر : 35
| موضوع: رد: أمثال قرآنية ... وقفات لا مثيل لها 15/8/2011, 2:00 am | |
| مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله
من الأساليب القرآنية التي اعتمدها القرآن الكريم تثبيتاً لمعاني الإيمان، وتبياناً لأحكام الإسلام ضرب الأمثال، وهو أسلوب يُظهر المعنى المجرد بمظهر الواقع محسوس، بحيث يكون أقرب إلى فهم المتلقي، وأوضح في بيان المقصود من الخطاب القرآني.
ومن الأمثلة القرآنية التي ضربها القرآن الكريم لبيان أهمية الإنفاق في وجوه الخير، ما جاء في قوله تعالى: { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم } (البقرة:261)، فقد بيَّن سبحانه أن مثل من ينفق ماله في سبيل الله كمثل عود القمح الذي يحمل سبع سنابل، وتحمل كل سنبلة منه مائة حبة، بمعنى أن الله سبحانه يضاعف له ما أنفقه أضعافاً مضاعفة.
فمن خلال هذا المثل الحسي المشاهد والحي، يدرك المؤمن أهمية وقيمة الإنفاق في سبيل الله. وكان يمكن للخطاب القرآني أن يأتي بصيغة مجردة، كأن يقال مثلاً: أنفقوا من أموالكم، ولا تبخلوا بها، فإن أنفقتم فإن الله يعوضكم خيراً مما أنفقتم، بيد أن مجيئه على هذا النحو المجرد لن يكون له من الأثر والتأثير الذي جاء عليه النظم القرآني.
وهذا المثل يتضمن التحريض على الإنفاق في كل ما هو طاعة، وعائد نفعه على المسلمين، فإن المال الذي يكد الإنسان في جمعه، هو عطاء من ربه { كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا } (الإسراء:20)، { والله يرزق من يشاء بغير حساب } (البقرة:212). ولكن الرزق قد يكون نعمة على صاحبه، وقد يكون نقمة؛ فإن أنفقه في وجوه الخير كان نعمة، وإن بخل به، وسعى في كنزه وادخاره كان نقمة.
فالله سبحانه يضرب لنا مثلاً على الإنفاق في وجوه الخير والبر بالزرع الجيد المعطاء؛ فالإنسان يبذر الحبة، التي لا تنبت عادة إلا سنبلة واحدة، فإذا أنبتت سبع شعب في رأس كل منها سنبلة، وفي كل سنبلة مائة حبة، فإن الحبة الواحدة تكون قد أعطت سبعمائة حبة. وهكذا فضل الذي ينفقون في سبيل الله، كما يبرزه لنا المثل القرآني.
وقد يستغرب البعض كيف للسنبلة أن تحمل هذا العدد من الحَبِّ؟ ولكن لا غرابة إذا علمنا أن الله هو المنبت، { وأنه على كل شيء قدير } (الحج:6) { إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } (يس:82)، { أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون } (:64) والحبة في حقيقة أمرها سبب، أُسند إليها الإنبات، كما أُسند إلى الأرض والماء، لكن المنبت الحقيقي هو الله سبحانه { الله خالق كل شيء } (الرعد:16)، فلا غرابة إذن أن يضاعف سبحانه نتاج الحبة، وهو المنان، المعطاء الكريم، ذو الجلال والإكرام، ذو القوة المتين، الفعال لما يريد.
ومن المهم أن نعلم، أن التمثيل هنا ليس إلا تصويراً للأضعاف، كأنها ماثلة أمام عيني الناظر. فكل نفقة في سبيل الله يعادلها الله أضعافاً كثيرة، { فيضاعفه له أضعافا كثيرة } (البقرة:245)، { والله واسع عليم } (البقرة:247)، وليس المراد بالضرورة حقيقة العدد.
وللمفسرين كلام طيب حول بيان مرمى هذا المثل والمراد منه، نختار من كلامهم الآتي:
يقول ابن عاشور : "وقد شبه حال إعطاء النفقة ومصادفتها موقعها، وما أُعطي من الثواب لهم بحال حبة أنبتت سبع سنابل...، أي: زُرعت في أرض نقية وتراب طيب، وأصابها الغيث فأنبتت سبع سنابل. وحذف ذلك كله إيجازاً؛ لظهور أن الحبة لا تنبت ذلك إلا كذلك، فهو من تشبيه المعقول بالمحسوس، والمشبه به هيئة معلومة، وجعل أصل التمثيل في التضعيف حبة؛ لأن تضعيفها من ذاتها لا بشيء يزاد عليها".
أما سيد قطب فيحلل هذا المثل القرآني تحليلاً أدبياً فكريًّا، فيقول: "إن الدستور لا يبدأ بالفرض والتكليف، إنما يبدأ بالحض والتأليف. إنه يستجيش المشاعر والانفعالات الحية في الكيان الإنساني كله. إنه يعرض صورة من صور الحياة النابضة النامية المعطية الواهبة، صورة الزرع. الزرع الذي يعطي أضعاف ما يأخذه، ويهب غلاته مضاعفة بالقياس إلى بذوره.
إن المعنى الذهني للتعبير ينتهي إلى عملية حسابية تضاعف الحبة الواحدة إلى سبعمائة حبة! أما المشهد الحي الذي يعرضه التعبير فهو أوسع من هذا وأجمل؛ وأكثر استجاشة للمشاعر، وتأثيراً في الضمائر. إنه مشهد الحياة النامية. مشهد الطبيعة الحية. مشهد الزرعة الواهبة. ثم مشهد العجيبة في عالم النبات: العُود الذي يحمل سبع سنابل. والسنبلة التي تحوي مائة حبة!
وفي موكب الحياة النامية الواهبة يتجه - القرآن - بالضمير البشري إلى البذل والعطاء. إنه لا يعطي بل يأخذ؛ وإنه لا ينقص بل يزاد. وتمضي موجة العطاء والنماء في طريقها. تضاعف المشاعر التي استجاشها مشهد الزرع والحصيلة..إن الله يضاعف لمن يشاء. يضاعف بلا عدة ولا حساب. يضاعف من رزقه الذي لا يعلم أحد حدوده".
وأما الشيخ رشيد رضا فقد حلل هذا المثل القرآني تحليلاً نفسياً اجتماعياً، وذكر حوله كلاماً لا ينبغي أن يُغفل عنه في مثل هذا المقام، حيث قال: "أمر الإنفاق في سبيل الله أشق الأمور على النفوس، لا سيما إذا اتسعت دائرة المنفعة فيما ينفق فيه، وبعدت نسبة من ينفق عليه عن المنفق؛ فإن كل إنسان يسهل عليه الإنفاق على نفسه وأهله وولده، إلا أفراداً من أهل الشح المطاع، وهذا النوع من الإنفاق لا يوصف صاحبه بالسخاء، ومن كان له نصيب من السخاء سهل عليه الإنفاق بقدر هذا النصيب، فمن كان له أدنى نصيب، فإنه يرتاح إلى الإنفاق على ذوي القربى والجيران. فإن زاد أنفق على أهل بلده فأمته فالناس كلهم، وذلك منتهى الجود والسخاء. وإنما يصعب على المرء الإنفاق على منفعة من يبعد عنه؛ لأنه فُطر على ألا يعمل عملاً لا يتصور لنفسه فائدة منه، وأكثر النفوس جاهلة باتصال منافعها ومصالحها بالبعد عنها، فلا تشعر بأن الإنفاق في وجوه البر الهامة، كإزالة الجهل بنشر العلم، ومساعدة العجزة والضعفاء، وترقية الصناعات، وإنشاء المستشفيات والملاجئ، وخدمة الدين المهذب للنفوس هو الذي به المصالح العامة حتى تكون كلها سعيدة عزيزة. فعلمهم الله تعالى أن ما ينفقونه في المصالح، يضاعف لهم أضعافاً كثيرة، فهو مفيد لهم في دنياهم، وحثهم على أن يجعلوا الإنفاق في سبيله.
فمثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، وهي ما يوصل إلى مرضاته من المصالح العامة، لا سيما ما كان نفعه أعم وأثره أبقى، كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، أي: كمثل أبرك بذر في أخصب أرض نما أحسن نمو، فجاءت غلته مضاعفة سبعمائة ضعف، وذلك منتهى الخصب والنماء، أي أن هذا المنفق يلقى جزاءه في الدنيا مضاعفاً أضعافاً كثيرة، كما قال سبحانه: { فيضاعفه له أضعافا كثيرة } (البقرة:245). فالتمثيل للتكثير لا للحصر؛ ولذلك قال: { والله يضاعف لمن يشاء }، فيزيده على ذلك زيادة لا تقدر ولا تحصر، فذلك العدد لا مفهوم له، ولا يحد عطاؤه عليم بمن يستحق المضاعفة من المخلصين، الذين يهديهم إخلاصهم إلى وضع النفقات في مواضعها التي يكثر نفعها، وتبقى فائدتها زمناً طويلاً، كالمنفقين في إعلاء شأن الحق وتربية الأمم على آداب الدين وفضائله التي تسوقهم إلى سعادة المعاش والمعاد، حتى إذا ما ظهرت آثار نفقاتهم النافعة في قوة ملكهم، وسعة انتشار دينهم وسعادة أفراد أمتهم عاد عليهم من بركات ذلك فوق ما أنفقوا بدرجات لا يمكن حصرها. فالمراد بالإنفاق هنا الإنفاق في خدمة الدين. وكلمة في { سبيل الله } تشتمل جميع المصالح العامة.
ومن أراد كمال البيان في ذلك، فليعتبر بما يراه في الأمم العزيزة التي ينفق أفرادها ما ينفقون في إعلاء شأنها، بنشر العلوم، وتأليف الجمعيات الدينية والخيرية، وغير ذلك من الأعمال التي تقوم بها المصالح العامة، إذ يُرى كل فرد من أفراد أدنى طبقاتها عزيزاً بها، محترماً باحترامها، مكفولاً بعنايتها، كأن أمته ودولته متمثلتان في شخصه، وليقابل بين هؤلاء الأفراد وبين كبراء الأمم التي ضعفت وذلت بإهمال الإنفاق في المصالح العامة، وإعلاء شأن الملة، كيف يراهم أحقر في الوجود من صعاليك غيرهم، ثم ليرجع إلى نفسه وليتأمل كيف أن نفقة كل فرد من الأفراد في المصالح العامة، يصح أن تعتبر هي المسعدة للأمة كلها، من حيث إن مجموع النفقات التي بها تقوم المصالح تتكون مما يبذله الأفراد، فلولا الجزئيات لم توجد الكليات".
ونختم الحديث حول هذا المثل بالقول: إن الله سبحانه من خلال هذا المثل القرآني أراد أن يضع العلاج والدواء الشافي لشح النفوس، وطمعها في حب المال؛ وأراد أن يستل منها نزعة الحرص، ورغبة التقتير، ويدفعها إلى البذل والعطاء والإنفاق بسماحة وطيب خاطر، ما يجعل هذا الإنفاق عنصراً فاعلاً في بناء الأمة اقتصادياً، وتماسكها اجتماعيًا، ووحدتها عقدياً. | |
|
| |
القرش مدير المنتدى
عدد المساهمات : 11377 تاريخ التسجيل : 21/03/2009 العمر : 35
| موضوع: رد: أمثال قرآنية ... وقفات لا مثيل لها 15/8/2011, 2:10 am | |
| مثل المؤمن والكافر
تضمن القرآن الكريم العديد من الأمثال، وكانت قضية الإيمان والكفر هي القضية المحورية التي أولاها القرآن الكريم عناية واهتماماً، وما ذلك إلا لأن هذا القرآن جاء ليخرج الناس من ظلمات الكفر والضلال إلى نور الإيمان والإسلام.
ومن الأمثال القرآنية التي تناولت قضية الإيمان والكفر، ما جاء في قوله تعالى: { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون } (الأنعام:125)، فهذه الآية الكريمة تقرر حقيقة لا شك فيها، وهي أن من وفقه الله لهدايته، يشرح صدره لهذا الدين، فيعيش هذا الدين سلوكاً وعقيدة، لا يحيد عنه، ولا يرضى سواه دينا؛ لأن الإسلام هو دين الفطرة ومهذبها، فإذا هُدي العبد لهذا الدين، وجد له في صدره انشراحاً واتساعاً بما يشعر به قلبه من السرور والقبول، وهذا هو النور الذي يفيض عليه من القرآن، أو الذي يسير فيه باتباعه له.
أما من لم يُوفق لهدي الإسلام، فإن صدره يكون ضيقاً عن استيعاب الإسلام، فلا يتقبل هداه، بل وتغلب عليه وساوس الشيطان، التي تضغط على قلبه حتى يشعر حقيقة وفعلاً بأن صدره قد ضاق من شدة هذا الضغط، كأنما يصعد إلى السماء، فكلما ازداد في هذا الصعود ارتفاعاً، اشتد الضيق والحرج على صدره حتى يكون عليه أعسر من ساعة الموت عند قبض روحه.
فالذي يُعرض عن هدي الإسلام، يجد صدره شديد الضيق لا يتسع لقبول شيء جديد مناف لما استحوذ على قلبه وفكره من التقاليد والضلال، فيكون استثقاله لإجابة الدعوة وشعوره بالعجز عنها كشعوره بالعجز عن الصعود بجسمه في جو السماء لأجل الوصول إليها أو التصاعد فيها بالتدريج. وصعود السماء يضرب به المثل فيما لا يستطاع، أو ما يشق على النفس حتى كأنه غير مستطاع.
وقد دلت الاكتشافات العلمية على أن الإنسان عندما يصعد في الفضاء، ويخرج من جاذبية الأرض، فإنه أشد ما يكون حاجة إلى الأوكسجين الذي ينعدم وجوده خارج فضاء هذه الأرض. وبما أنه لا حياة للإنسان بلا أوكسجين، فإن فقدانه يؤدي إلى موته اختناقاً، مع ما يصاحب هذا الاختناق من الشعور بضيق الصدر، وبالآلام المبرحة الناتجة عنه. ولعل من تصيبه أزمة قلبية أدرى بهذه الآلام من غيره. وهكذا هي حال من يأبى نور الإسلام، إذ تنتابه الوساوس، والهموم، والقلق والاضطراب، فتتأزم نفسه، كأنما يرتفع إلى الجو بلا أوكسجين يمده بالحياة.
وقد وضح من خلال هذا المثل، أن الإسلام سبب الحياة، وهو سبب هنائها وراحتها، وأنه من غير الإسلام فإنه لا مجال إلا لضيق الصدور، وقلق القلوب، وملازمة الشقاء، ومعاناة البؤس، وهذا ما هو حاصل فعلاً لكثير ممن لم يقبلوا هدي الإسلام، ورفضوا الانضواء تحت لواء نور القرآن.
كما أن هذا المثل يدل على أن القرآن الكريم لم ينزل إلى جيل، أو إلى أمة، أو إلى مجتمع بعينه، بل أنزل للناس جميعاً، وللعصور كافة، ولذلك كان الإسلام نور هداية ورشاد، ومصدر علم ومعرفة لكل من أراد أن يستقي من معين الله.
وكما تحل الآلام والعذاب بالإنسان في هذه الدنيا من شدة الضلال، حتى تجعل صدره ضيقاً عن استيعابها، وغير قادر على احتمالها، كذلك سيكون عذاب الآخرة أشد إيلاماً على من لا يؤمنون بالإسلام ديناً؛ لأنه وحده الدين القادر على إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وهو وحده الدين المؤهل لتحقيق السعادة للناس في الدنيا والآخرة في آنٍ معاً، أما في الدنيا فراحة واطمئنان للنفس، وأما في الآخرة فرضوان من الله أكبر وذلك هو الفوز العظيم. | |
|
| |
القرش مدير المنتدى
عدد المساهمات : 11377 تاريخ التسجيل : 21/03/2009 العمر : 35
| موضوع: رد: أمثال قرآنية ... وقفات لا مثيل لها 15/8/2011, 2:11 am | |
| مثل الإنفاق في غير طاعة الله
ضَرْب الأمثال أسلوب قرآني، القصد منه تقريب الفكرة إلى ذهن القارئ، وتبسيط ما هو مجرد، وجعله أقرب ما يكون إلى الفهم؛ فكلما كانت الفكرة مصاغة بحسب ما هو واقع ومحسوس، كانت أوضح في بيان المقصود، وأبلغ في تحديد المراد.
ومن الأمثلة القرآنية التي ضربها سبحانه للناس، تبياناً لمواقف المنفقين للمال، وتمحيصاً للمؤمن من المنافق، قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين * ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير * أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون } (البقرة:264-266).
هذه الآيات الثلاث تضمنت أمثلة ثلاثة، تتعلق بأحوال الناس في الإنفاق:
المثال الأول: فيه تشبيه بعض المتصدقين الذين يتصدقون طلباً للثواب، غير أنهم يُتبعون صدقاتهم بالمن والأذى، بالمنفقين المرائين، الذين ينفقون أموالهم لا يطلبون من إنفاقها إلا السمعة والمفاخرة بين الناس. فالذي ينفق ماله ابتغاء السمعة والظهور بين الناس، لا يستشعر نداوة الإيمان وبشاشته، ويكون قلبه مغشياً بالرياء، كالحجر الذي لا خصب فيه ولا ليونة، يغطيه تراب خفيف، يحجب قسوته عن العين، كما أن الرياء يحجب قسوة القلب الخالي من الإيمان. فإذا نزل مطر غزير على هذا الحجر، ذهب بالتراب الذي عليه، فانكشفت حقيقته، وظهرت قسوته، ولم ينبت زرعه، ولم يثمر ثمره، كذلك القلب الذي أنفق ماله طلباً للظهور بين الناس، فإن إنفاقه هذا لا يثمر خيراً، ولا ينفعه أجراً!
ووجه التمثيل بين المانِّ والمؤذي بصدقته وبين المرائي بنفقته، أن كلا منهما قد غش نفسه، فألبسها ثوب زور، يوهم الرائي شيئاً غير ما هو في الحقيقة.
المثال الثاني: ضرب الله المثل فيه للمخلصين في الإنفاق؛ وذلك مثل المؤمن العامر قلبه بالإيمان، ينفق ماله عن ثقة ثابتة في الخير، نابعة من الإيمان، كمثل بستان خصب عميق التربة، يقوم على ربوة، فإذا نزل عليه مطر كثير، أعطى ثماراً وغلالاً ضعفي ما يعطي غيره. وإذا نزل عليه مطر قليل كفاه ليبقى على رونقه وجماله وبهائه.
ووجه التمثيل في هذا المثل - كما قال الشيخ رشيد رضا - أن المنفق ابتغاء مرضاة الله هو في إخلاصه وسخاء نفسه وإخلاص قلبه كالجنة الجيدة التربة الملتفة الشجر العظيمة الخصب في كثرة بره وحسنه، فهو يجود بقدر سعته، فإن أصابه خير كثير أغدق ووسع في الإنفاق على ذوي الحاجات، وإن أصابه خير قليل أنفق منه بقدره، فخيره دائم، وبره لا ينقطع; لأن الباعث عليه ذاتي لا عرضي كأهل الرياء وأصحاب المن والإيذاء. فـ (الوابل) و(الطل) على هذا عبارة عن سعة الرزق وما دون السعة.
ولك أن تقول: إن وجه التمثيل هنا - كما قال الشيخ محمد عبده - أن النية الصالحة في الإنفاق كالوابل للجنة فيها تكون النفقة نافعة للناس; لأن أصحابها يتحرون مواضعها، فيضعون نفقتهم موضع الحاجة، لا يبذرون بغير روية. وأن أمثال هؤلاء المخلصين لا يخيب قاصدهم; لأن رحمة قلوبهم لا يغور معينها، فإن لم تصبه بوابل من عطائها لم يفته طَلَّه، فهم كالجنة التي لا يخشى عليها اليبس والزوال.
وهذا التمثيل يفيد أن إنفاق المؤمن قد يكون إنفاقاً كثيراً، مثل المطر الغزير، وقد يكون إنفاقاً قليلاً، مثل المطر القليل، وفي كلٍّ خير، وهو يُعبِّر عن اهتمام المؤمن بغيره، والعمل على النهوض بأمته قدر استطاعته، وبحسب إمكاناته.
وهذا المثل مقابل للمثل الأول؛ فإذا كان قلب المرائي قاسياً، عليه ستار من الرياء، كمثل حجر صلد عليه غشاء من التراب، فإن قلب المؤمن كالأرض الخصبة المعطاء؛ وإذا كان قلب المرائي المغطى بالرياء والنفاق، كمثل حجر أملس مغطى بالتراب، سرعان ما تنكشف حقيقته وطبيعته، فإن قلب المؤمن خير على كل حال.
المثال الثالث: عقَّب سبحانه المثلين السابقين بمثل آخر، يتبين به حال الفريقين؛ إذ فيه تمثيل لنهاية المن والأذى، وكيف يمحق الله آثار الصدقة المتبوعة بالمن والأذى محقاً في وقت لا يملك صاحبها قوة ولا عوناً، ولا يستطيع لذلك المحق دفعاً ولا منعاً، تمثيل لهذه النهاية البائسة في صورة بستان فيه من كل الزروع والثمرات، جارياً الماء في كل أنحاءه، فهل يود من كان مالكاً لمثل هذا البستان أن يخسر بستانه، خاصة بعد أن تقدمت به السن، وبلغ أرذل العمر، وأخذ العجز منه كل مأخذ، وكان تحت رعايته أولاد ضعاف ونساء عجائز، لا يستطيعون سعياً في الأرض ولا كسباً، فهل يرغب من كانت هذه حاله أن تأتي بستانه عاصفة، تفني أخضره ويابسه، وتذره قاعاً صفصفاً، أو هل هو راغب أن يحترق بستانه فيصبح نسياً منسياً؟
ويصور لنا هذا المثل أنموذجاً من واقع الحياة البشرية، حيث نجد مثل هذا الشيخ الفاني الكبير في ضعف جسمه، ووهن نشاطه، وقد تكون له ذرية لا يعطفون عليه، أو قد يكونون فقراء لا يقدرون على نفعه بشيء، إن لم يكونوا عالة عليه، فكما يتحسر هذا الشيخ على حياته السابقة، كتحسر الذي أنفق ماله منًّا وأذى، أو كالذي أنفقه بقصد لفت الأنظار والأسماع؛ لأنه لم يدخر عملاً صالحاً يشفع له يوم القيامة، إذا انقطعت به أسباب الدنيا.
والتمثيل هنا أيضاً فيه تصوير لحال المؤمن المعطاء المنفق ماله ابتغاء وجه الله، فهو لا يقصد أن يذهب بأجر صدقته هباء، بل هو حريص كل الحريص على أن تكون خالصة لوجه الله تعالى، فلا يمنُّ بها على أحد، ولا يؤذي أحداً بكلمة تجرح مشاعره، وتذهب ببركة صدقته.
كما يدل هذا المثل الأخير على أن الذي يهمل طاعة الله من أجل ملاذِّ الدنيا، لا يحصل في الآخرة إلا على الحسرة والندامة. فهو يحتاج في آخرته إلى الأعمال الصالحة كحاجة صاحب الأرض إلى ثمارها وخيراتها. ولعل حسرة هذا الشيخ الفاني الذي بلغ من الكبر عتياً تكون أعظم بعدما يئس من الشباب الذي ولى هارباً، فلم يعد لديه إمكانية على العمل والعطاء.
فالقرآن الكريم من خلال هذه الأمثلة الثلاثة، يريد أن يربي المسلم على مأثرة من مآثره السامية، وهي مأثرة الإنفاق في سبيل الله، ويبين له أن الرياء يبطل ثواب العمل، وأن المنَّ والأذى يحبط أجر الصدقة. فالرياء مرض من أمراض المجتمع، يدل على ضعف في الشخصية، وسوء في الخلق، وتعلق بالدنيا، وبُعد عن الآخرة. والإسلام عندما أوصى بالصدقة، إنما أوصى بها تزكية لنفس المتصدق، وتزكية لماله أيضاً، وحرصاً على تكافل المجتمع، وبناء مجتمع معافى من الحسد والبغضاء، وبعيد عن التناحر والتشاحن. | |
|
| |
القرش مدير المنتدى
عدد المساهمات : 11377 تاريخ التسجيل : 21/03/2009 العمر : 35
| موضوع: رد: أمثال قرآنية ... وقفات لا مثيل لها 15/8/2011, 2:14 am | |
| مثل الصحابة في التوارة والإنجيل
في الآية الأخيرة من سورة الفتح، وصف سبحانه صحابة رسوله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم خير وصف، فقال: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار} (الفتح:29). هكذا وصفت الآية صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشدة والغلظة على أعداء الله، والرأفة والرحمة بإخوانهم المؤمنين؛ فالموقف الذي يقفه المؤمن من عدوه، مختلف تماماً عن الموقف الذي يقفه من أخيه المؤمن، فشتان ما بينهما. فلكل حال صفة يقتضيها هو أليق بها، ولكل مقام وصف يقتضيه هو أجدر به، وهكذا كان أمر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أشداء في الموقف الذي يقتضي الشدة، ورحماء في الموقف الذي يقتضي الرحمة. كانوا - رضوان الله عليهم - في الحرب والقتال أشداء على عدوهم، ماضون في مواجهته دون تردد أو خوف، أرواحهم على أكفهم، يسبقون الموت إلى ملاقاته، لا يخشونه ولا يهابونه. وكانوا في السلم غاية في الحب ، والرقة، ودماثة خلق، والخضوع. كذا جاء وصفهم في التوراة {ذلك مثلهم في التوراة}. وجاء وصفهم في الإنجيل بـ (الزرع) وقد أينع وأثمر، ثم قوي واشتد عوده، واستقام حتى أعجب الخاصة من الزراع، والعامة من الناظرين والرائين. هذا المثل القرآني البديع لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما يقول سيد قطب رحمه الله -، يرسم لقارئه صورة عجيبة مؤلفة من عدة لقطات، لأبرز صفات الصحابة رضي الله عنهم الظاهرة والباطنة. فلقطة تصور حالتهم مع الكفار ومع أنفسهم: {أشداء على الكفار رحماء بينهم}. ولقطة تصور هيئتهم في عبادتهم: {تراهم ركعاً سجداً}. ولقطة تصور قلوبهم وما يشغلها ويجيش بها: {يبتغون فضلاً من الله ورضواناً}. ولقطة تصور أثر العبادة والتوجه إلى الله في سمتهم وسماتهم: {سيماهم في وجوههم من أثر السجود}. إنهم أشبه بالزرع الذي يكون في بداية أمره ضعيفاً، ثم يقوى ويشتد وينضج ويُثمر، حتى ينال إعجاب زارعيه من كثرة عطائه، ووفير خيراته. والمؤمنون - يقول سيد - لهم حالات شتى، ولكن اللقطات تتناول الحالات الثابتة في حياتهم، ونُقَطَ الارتكاز الأصيلة في هذه الحياة. وتُبرزها وتصوغ منها الخطوط العريضة في الصور الوضيئة. وإرادة التكريم واضحة في اختيار هذه اللقطات، وتثبيت الملامح والسمات التي تصورها. التكريم الإلهي لهؤلاء الصحابة الكرام، الذين {رضي الله عنهم ورضوا عنه} (المائدة:119). هذا معنى هذا المثل القرآني من حيث الجملة. وقد ذكر المفسرون أن هذا المثل قابل لاعتبار تجزئة التشبيه في أجزائه، بأن يشبه محمد صلى الله عليه وسلم بالزارع، ويشبه المؤمنون الأولون بحبات الزرع التي يبذرها في الأرض، مثل: أبي بكر، وخديجة، وعليٌّ، وبلال، وعمار رضي الله عنهم جميعاً. والشطء: من أيدوا المسلمين. وسواء علينا أنظرنا إلى هذا المثل من حيث التمثيل الكلي، أم نظرنا إليه من حيث التمثيل الجزئي، فإن الذي يدل عليه: هو بيان حقيقة صفة الصحابة رضي الله عنهم، وأنهم كانوا دائمي البذل والعطاء، لا يألون جهدهم في سبيل نصر الإسلام، والذود عن حماه. والغرض الأساس من هذا المثل: بيان حال الإسلام في ابتداء أمره، ثم ما آل إليه أمره من العزة والقوة، يقول الزمخشري في هذا الصدد: "هذا مثل ضربه الله لبدء أمر الإسلام، وترقيه في الزيادة إلى أن قوي واستحكم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قام وحده. ثم قواه الله بمن آمن معه كما يقوي الطاقة الأولى من الزرع، ما يحتف بها مما يتولد منها حتى يعجب الزراع". وقال ابن عاشور: "وهذا التمثيل تشبيه حال بدء المسلمين ونمائهم، حتى كثروا، وذلك يتضمن تشبيه بدء دين الإسلام ضعيفاً، وتقوِّيه يوماً فيوماً، حتى استحكم أمره، وتغلب على أعدائه". ونختم الحديث عن هذا المثل بما نقله القرطبي عن أبي عروة الزبيري، قال: كنا عند مالك بن أنس، فذكروا عنده رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله، فقرأ مالك قوله تعالى: {محمد رسول الله} إلى أن بلغ قوله: {ليغيظ بهم الكفار}، فقال مالك: من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية. وصدق مالك فيما قال. | |
|
| |
القرش مدير المنتدى
عدد المساهمات : 11377 تاريخ التسجيل : 21/03/2009 العمر : 35
| موضوع: رد: أمثال قرآنية ... وقفات لا مثيل لها 15/8/2011, 2:15 am | |
| مثل الذين لا يجيبون داعي الله
ذم القرآن الكريم موقف المشركين من دعوة الحق، وضرب المثل في موقفهم؛ إبلاغاً في البيان، واستحضاراً للمراد بالعَيان، فقال جلَّ من قائل: { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون } (البقرة:171). فهذا المثل القرآني يبين حال المشركين من دعوة الإسلام، حيث إنهم لا يسمعون نداء الإيمان، ولا يلتفتون إلى دعوة الإسلام، وحالهم هذه كحال الأنعام التي يخاطبها صاحبها، لكن لا تفقه له قولاً، ولا تدرك له مقصداً.
هذا فحوى المثل على وجه الإجمال. وقد ذكر المفسرون أن هذا المثل قد يراد منه أمرين:
الأول: تشبيه الرسول صلى الله عليه وسلم مع الكفار بالراعي الذي ينادي بالغنم والإبل، فلا تسمع إلا دعاءه ونداءه، ولا تفهم ما يقول. فالمعنى: ومثلك يا محمد ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به من البهائم التي لا تفهم.
قال الزمخشري : مثل داعي الكفار إلى الإيمان، في أنهم لا يسمعون من الدعاء إلا جرس النغمة ودوي الصوت، من غير إلقاء أذهان ولا استبصار، كمثل الناعق بالبهائم، التي لا تسمع إلا دعاء الناعق ونداءه، الذي هو تصويت بها وزجر لها، ولا تفقه شيئاً آخر ولا تعي، كما يفهم العقلاء ويعون.
وعلى هذا القول، فالمراد من المثل تشبيه حال الكفار عند سماع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم إلى الإسلام بحال الأنعام عند سماع دعوة من ينعق بها في أنهم لا يفهمون دعاء، ولا يفقهون نداء. فالغنم تسمع صوت الدعاء والنداء، ولا تفهم ما يتكلم به الناعق، والمشركون لم يهتدوا بالأدلة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن مثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام، كمثل الصائح في جوف الليل، لا يلقى إلا صدى لصوته وندائه. فهو يصيح بما لا يسمع، ويجيبه ما لا حقيقة فيه ولا منتفع. قال الطبري : المراد مثل الكافرين في دعائهم آلهتهم كمثل الذي ينعق بشيء بعيد، فهو لا يسمع من أجل البعد؛ فليس للناعق من ذلك إلا النداء الذي يتعبه وينصبه.
وحاصل المعنى على التقديرين: أن الكفرة لانهماكهم في اتباع الآباء، وإخلادهم إلى ما هم عليه من الضلالة، لا يلقون أذهانهم إلى ما يُتلى عليهم، ولا يتأملون فيما يقرر معهم، فهم في ذلك كالبهائم التي يُنعق عليها، وهي لا تسمع إلا جرس النغمة ودويَّ الصوت.
والغرض الرئيس من ضرب هذا المثل، تنبيه السامعين، أن الكفار إنما وقعوا فيما وقعوا فيه بسبب ترك الإصغاء، وقلة الاهتمام بالدين، فصيرهم من هذا الوجه بمنزلة الأنعام، ومثل هذا المثل يزيد السامع معرفة بأحوال الكفار، ويحقر إلى الكافر نفسه إذا سمع ذلك، فيكون كسراً لقلبه، وتضييقاً لصدره، حيث صيره كالبهيمة، فيكون في ذلك نهاية الزجر والردع لمن يسمعه عن أن يسلك مثل طريقه في التقليد والاتباع.
وعلى العموم، فالمقصود من هذا المثل ابتداء، هو تشبيه حال الكفار في رفضهم الدعوة، ويستتبع ذلك تشبيه حال النبي صلى الله عليه وسلم وحال دعوته.
ثم إن هذا المثل أيضاً قد يراد منه ذم التقليد، واتباع الآباء الضالين؛ وذلك أن هذا المثل سُبق بقوله تعالى: { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا } (البقرة:170)، ومن ثم يكون هذا المثل جاء ليرسم صورة مزرية للمقلدين، تليق بهذا التقليد وهذا الجمود، إنها صورة البهيمة السارحة التي لا تفقه ما يقال لها، بل إذا صاح بها راعيها، سمعت مجرد صوت، لا تفقه ماذا يعني! بل هم أضل من هذه البهيمة، فالبهيمة ترى وتسمع وتصيح، وهم صم بكم عمي. ولو كانت لهم آذان وألسنة وأعين، ما داموا لا ينتفعون بها، ولا يهتدون. فكأنها لا تؤدي وظيفتها التي خُلقت لها، وكأنهم إذن لم توهب لهم آذان، وألسنة، وأعين.
وعلى هذا، يرسم هذا المثل - كما يقول سيد رحمه الله - صورة تبين منتهى الزراية بمن يعطل تفكيره، ويغلق منافذ المعرفة والهداية، ويتلقى في أمر العقيدة والشريعة من غير الجهة التي ينبغي أن يتلقى منها أمر العقيدة والشريعة.
ويُستفاد من هذا المثل أن المقلدين الذين ألغوا مداركهم وأفهامهم، فلم يتفكروا في خلق السموات والأرض، ولم يتوصلوا ببحثهم وتفكرهم إلى الاعتقاد الجازم، والإيمان المكين. والذين صَمَّوا عن سماع دعوة الحق آذانهم، هؤلاء هم السلبيون، مسلوبو الإرادة والتصرف. الذين كلما دعاهم داعيَ الله إلى الحق والهدى، كان قصاراهم أن يقولوا: لنا في آبائنا قدوة وأسوة، فلن نحيد عن معتقداتهم، ولن نخرج عن سننهم.
أمثال هؤلاء المقلدين مثَّلهم القرآن بالبهائم، التي تطيع صيحات راعيها من غير تفكير في مدلولاتها، لا تفهم أوامره، ولا تفقه نواهيه، ولا تعقل صيحاته وندائه، بل تسمع أصواتاً منه اعتادت عليها، تدعى بصوت، فتأتي وتُقبل، وتُصرف بآخر، فتُدبر وتعود. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. | |
|
| |
القرش مدير المنتدى
عدد المساهمات : 11377 تاريخ التسجيل : 21/03/2009 العمر : 35
| موضوع: رد: أمثال قرآنية ... وقفات لا مثيل لها 15/8/2011, 2:16 am | |
| وجعلنا له نورا يمشي به كثيراً ما يأتي القرآن الكريم بعبارة حسية؛ ليبين معنى مجرداً؛ وذلك أن العقل أقرب إلى فهم واستيعاب ما هو مادي محسوس، على خلاف ما هو نظري مجرد. وهذا ما نلحظه في المثال القرآني الذي بين أيدينا:
يقول سبحانه: { أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } (الأنعام:122). فقد ضرب سبحانه هذا المثل ليتبين وجه الفرق بين المؤمنين المهتدين؛ للاقتداء بهم، والكافرين الضالين؛ للتنفير من طاعتهم، والحذر من غوايتهم.
ويقدم المثل الذي بين أيدينا أربع صور حسية، لا تخلو منها حياة الإنسان، ولكل منها تأثيره البالغ عليه؛ ففي الموت يفنى جسد الإنسان، وينعدم نهائياً من هذه الحياة. وفي الحياة يتجسد وجوده بكل ما ينطوي عليه، وذلك منذ تكوينه في بطن أمه وإلى نهاية عمره. أما النور فإن فيه دلالة على عيش الإنسان في حركته الدائمة، من الصحة والنشاط والعمل، ومن التأثر بما يحيط به، أو التأثير الذي يحدثه في هذا المحيط. وأما الظلام فهو على عكس النور؛ لأنه يعني السكون، وعدم وجود المقومات التي تمكنه من الحركة أو التأثير، فهو من أهم معوقات الإنسان عن العطاء الذي يمكن من تفاعل الحياة في مختلف جوانبها.
وأهم ما يريد هذا المثل القرآني أن يوجه إليه المسلم، هو التمييز بين الكفر والإيمان، مع إثبات صورة عجيبة في أذهاننا، وهي إعادة ميت إلى الحياة، وسعيه بين الناس بأفضل مما كان عليه قبل موته. فالمقصود من هذا المثل القرآني الإنسانُ الكافر، الذي يكون بمثابة الميت في كفره، فيهديه ربه إلى الإيمان، وفي هذه الهداية تكون حياته الحقيقية.
وكثيراً ما تستعار (الحياة) للهداية وللعلم، ومنه قول الشاعر:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله فأجسامهم قبل القبور قبور
وإن امـرأ لـم يحيى بالعلم ميت فليس له حتى النشور نشور
وقد وصف سبحانه الكفار بأنهم أموات في قوله: { أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون } (النحل:21)، وأيضاً في قوله: { لينذر من كان حيا } (يس:70)، وفي قوله: { إنك لا تسمع الموتى } (النمل:80)، وفي قوله: { وما يستوي الأحياء ولا الأموات } (فاطر:22)، فقد جعل سبحانه الكفر موتاً والكافر ميتاً، وبالمقابل جعل الهدى حياة والمهتدي حياً، وإنما جعل الكفر موتاً؛ لأنه جهل، والجهل يوجب الحيرة والتردد، فهو كالموت الذي يوجب السكون، وأيضا الميت لا يهتدي إلى شيء، والجاهل كذلك، والهدى علم وبصر، والعلم والبصر سبب لحصول الرشد في الدنيا، والفوز في الآخرة.
ولكي يظل المهتدي على هداه لا يزيغ عنه ولا يحيد، فإن الله يجعل له نوراً دائماً يستضيء به في درب هذه الحياة، وهذا النور هو القرآن المبين، الذي هو الصراط المستقيم، وهو الشفاء لما في الصدور من أمراض وعلل. فالقرآن هو النور الهادي الشافي. وقد جاءت تسمية القرآن بـ (النور) في أكثر من آية في القرآن الكريم، كقوله تعالى: { وأنزلنا إليكم نورا مبينا } (النساء:174). فالقرآن نور يحمله المؤمن في قلبه، وعلى لسانه، وبين يديه، ويمشي به في الناس آمناً مطمئناً، مقبلاً غير مدبر، منفتحاً على الحياة، غير هياب لم يعترضه من عقبات.
والظلمة عكس النور، وقد وردت في القرآن الكريم تسمية الجهل بالظلمة، مثلما وردت تسمية الإيمان بالنور، قال تعالى: { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور } (البقرة:257) فيكون الكافر هو الجاهل الضال، القابع في ظلمات الجهل، لا يبصر علماً، ولا يهتدي سبيلاً.
وتمثيل المؤمن بالحي، والكافر بالميت ورد في مواضع عديدة في القرآن الكريم، كقوله تعالى: { وما يستوي الأحياء ولا الأموات } (فاطر:22)، وقال سبحانه: { إنك لا تسمع الموتى } (النمل:80)، وقال عز وجل: { لينذر من كان حيا } (يس:70). ومن هنا كان التعبير عن الكفر، والجهل، والضلال بـ (الظلام) الذي هو العمى والتيه. وسمى القرآن الكريم الكافر بـ (الأعمى) الذي تغطي (الظلمة) بصره وبصيرته، كما قال تعالى: { هل يستوي الأعمى والبصير } (الأنعام:50). ولذلك كان الإيمان ضد الكفر، وكان المؤمنون غير الكافرين في كل شيء.
ومن المفيد هنا أن نستحضر كلاماً لسيد قطب حول هذا المثل لأهميته، يقول رحمه الله: "إن هذه العقيدة تنشئ في القلب حياة بعد الموت، وتطلق فيه نوراً بعد الظلمات. حياة يعيد بها تذوق كل شيء، وتصور كل شيء، وتقدير كل شيء بحس آخر، لم يكن يعرفه قبل هذه الحياة. ونوراً يبدو كل شيء تحت أشعته وفي مجاله جديداً، كما لم يبد من قبل قط لذلك القلب الذي نوره الإيمان.
إن الكفر انقطاع عن الحياة الحقيقية الأبدية، التي لا تفنى ولا تغيض ولا تغيب. فهو موت، وانعزال عن القوة الفاعلة المؤثرة في الوجود كله. وهو موت وانطماس في أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية...والإيمان اتصال، واستمداد، واستجابة، فهو حياة.
إن الكفر حجاب للروح عن الاستشراف والاطلاع، فهو ظلمة، وختم على الجوارح والمشاعر، وتيه في الجهل والضلال. وإن الإيمان تفتح ورؤية، وإدراك واستقامة. فهو نور بكل مقومات النور.
إن الكفر انكماش وتحجر، فهو ضيق، وشرود عن الطريق الفطري الميسر، فهو عسر، وحرمان من الاطمئنان إلى الكنف الآمن، فهو قلق. وإن الإيمان انشراح ويسر وطمأنينة وظل ممدود.
وما الكافر؟ إن هو إلا نبتة ضالة، لا وشائج لها في تربة هذا الوجود ولا جذور. إن هو إلا فرد منقطع الصلة بخالق الوجود، فهو منقطع الصلة بالوجود. لا تربطه به إلا روابط هزيلة من وجوده الفردي المحدود. في أضيق الحدود. في الحدود التي تعيش فيها البهيمة. حدود الحس وما يدركه الحس من ظاهر هذا الوجود".
وفي المحصلة، فإن العبرة في هذا المثل أن يطالب المسلم نفسه بأن يكون حياً عالماً على بصيرة في دينه وأعماله وحسن سيرته في الناس، وقدوة لهم في الفضائل والخيرات، وحجة على فضل دينه على جميع الأديان، وعلو آدابه على جميع الآداب. | |
|
| |
نور الهدى المشرفة العامة
عدد المساهمات : 16373 تاريخ التسجيل : 02/10/2009 العمر : 41
| موضوع: رد: أمثال قرآنية ... وقفات لا مثيل لها 15/8/2011, 8:35 am | |
| [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]مشاء الله موضوع في غاية الروعة وراح يغير تفكير البشر وانا واحدة منهم - اقتباس :
الباطل قد يظهر، ويعلو، ويبدو أنه صاحب الجولة والكلمة، لكنه أشبه ما يكون بتلك الرغوة البيضاء التي تطفو على سطح ماء السيل، والمعدن المذاب، سرعان ما تذهب وتغيب، من غير أن يلتفت إليها أحد. في حين أن الحق، وإن بدا لبعضهم أنه قد انزوى أو غاب أو ضاع أو مات، لكنه هو الذي يبقى في النهاية، كما يبقى الماء الذي تحيى به الأرض بعد موتها، والمعدن الصافي الذي يستفيد منه الناس في معاشهم حلية أو متاعاً والله كأنك دخلت عقلي
هاي الايام كان يرودني التفكير
انوا بشوف انوا الباطل عايش يمرح ويصرح
- اقتباس :
- وصاحب الباطل كل شي مفتحولوا
بينما الحق لا ، وإن بدا لبعضهم أنه قد انزوى أو غاب أو ضاع أو مات، لكنه هو الذي يبقى في النهاية، كما يبقى الماء الذي تحيى به الأرض بعد موتها، والمعدن الصافي الذي يستفيد منه الناس في معاشهم حلية أو متاعاً لكن هلا تغير تفكير - اقتباس :
، ويبقى جوهر المعدن الأصيل الذي ينتفع به الناس، فيصنعون منه أدواتهم، ويستعينون به على قضاء حوائجهم . بس هلا ارتحتوالذي يستفاد من التمثيل الوارد في الآية جملة أمور: - اقتباس :
- أولها:
أن العاقبة للمؤمنين، وأن الحق منتصر لا شك في ذلك، وإن كان الواقع يدل على غير ذلك؛ وأن الباطل لا محالة زائل، وإن كان في يوم من الأيام ممسكاً بالراية ورافعاً لها . - اقتباس :
ثانيها: أن العمل الصالح هو الذي يبقى لصاحبه، وهو الذي يرجى منه الخير في الدنيا والآخرة، وأن العمل السيئ يذهب ولا يفيد صاحبه شيئاً .
- اقتباس :
- ثالثها: أن العلم والهدى هو الذي ينفع المؤمن في هذه الحياة، وأن الشك والباطل لا يغنيا ولن يغنيا من الحق شيئاً .
- اقتباس :
- أخيراً، يقول ابن القيم : إن من لم يفقه هذين المثلين ولم يتدبرهما ويعرف ما يراد منهما فليس من أهلهما .
إن من لم يفقه هذين المثلين ولم يتدبرهما ويعرف ما يراد منهما فليس من أهلهما فهمتهم مليح مليح [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] يعني انا من اهلهم
الحمد الله [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] | |
|
| |
| أمثال قرآنية ... وقفات لا مثيل لها | |
|