تضاربت فتاوى العلماء المعاصرين بشأن التّظاهر، بين مَن يُجيزها لإسقاط
أنظمة الحكم الفاسدة والديكتاتورية في الوطن العربي وبين مَن يحظرها، وهو
ما فتح الباب على مصراعيه أمام قطاعات واسعة من الجماهير لكي تتجاوز
الدِّين وتعاليمه في تحرّكاتهم أو تنظُر إلى الدِّين على أنّه يقف عائق
أمامهم في تحقيق حرّيتهم وكرامتهم واستقلالهم، وهي القضية الّتي أعادتنا
إلى مشهد انقسام العالم العربي والإسلامي أثناء حرب الخليج الثانية بعد غزو
نظام صدام حسين واحتلاله للكويت.
يأتي هذا النِّقاش في ظلّ الفتاوى
الّتي تخرج من حين لآخر في إطار مطالب الشعوب لتحقيق قدر من العدل والعدالة
الاجتماعية والاقتصادية، وقد جاءت تلك الفتاوى -بين مَن يُجيزها ومَن
يحظرها- إبان انتفاضة الشعب التونسي وثورته على الحكم الاستبدادي للرئيس
المخلوع والهارب، إذ صدرت فتاوى ومواقف في تونس تُؤيِّد الرئيس بن علي
وتصفه بالعدل والرشد وتؤثِّم مَن يخرج عليه، وعندما سقط الرجل وهرب أخذ بعض
من هؤلاء يُشيِّدون بالشعب التونسي وثورته على الظلم.
كما يتقاطع
المشهد التونسي مع فتوى صدرت في مصر أثناء المظاهرات الشبابية السلمية
الّتي اندلعت قبل فترة قصيرة تُطالب بالعدل والعدالة الاجتماعية
والاقتصادية ومحاربة الفساد وإشاعة الحريات، حيث أفتى الشيخ سعيد عامر أمين
لجنة الفتوى بالأزهر برفضه للمظاهرات والوقفات الاحتجاجية حتّى وإن كانت
سلمية، واعتبر أنّ المظاهرات التي تقع فيها أحداث فوضى هي من قبيل الإفساد
في الأرض، واعتبر أنّ التظاهرات السلمية أمر لم يعهد في الإسلام، وأنّ
النّاس إبان صدر الإسلام كانوا يعبِّرون عن رأيهم من دون تظاهر.
فقد
أكّد العلامة الشيخ يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
أنّ ما يقوم به الشباب العربي الثّائر هو الدِّين نفسه وليس من الفتنة في
شيء، لافتًا إلى أنّ ''السلفية المتعصبة'' و''الصوفية'' اتفقتَا على تسفيه
الثورات العربية عبر التّرويج لمَا سمّاها ''ثقافة سامة تربط الفتنة
بالخروج على الحكام''. وشدّد القرضاوي في كلمة بندوة نظّمها الاتحاد
بالدوحة مؤخّرًا عن علاقة الحاكم بالمحكوم في ظلّ متطلبات الشّرع والعصر،
أنّ الإسلام يأمُر بمجاهدة الظالمين وإزالة ''الظلم الّذي يُمارسه الحكام
في أبشع صفاته''. بينما أكّد الشيخ عبد المجيد الزنداني، رئيس جمعية علماء
اليمن، على جواز التّظاهر وأعلن تأييده لمطالب الشباب المتظاهرين، وقال إنّ
الاعتصامات صورة من صور الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر. وقال الزنداني
''لا شرعية لحاكم لا يرتضيه شعبه، وإنّ الشعب هو صاحب الحق في اختيار حكامه
ونوابه''، معتبرًا أنّ الاعتصامات حق من الحقوق الدستورية للنّاس.
وفي
المقابل، شَنّ مفتي عام المملكة العربية السعودية، الشيخ عبد العزيز آل
الشيخ، هجومًا على مثيري المظاهرات والمسيرات في مصر وغيرها من الدول
العربية، واصفًا تلك المظاهرات بـ''المخطّطة والمدبّرة'' لتفكيك الدول
العربية الإسلامية، وتحويلها من دول كبرى قوية إلى دول صغيرة متخلّفة. وقال
آل الشيخ في خطبة الجمعة، إنّ الهدف من تلك المظاهرات هو ضرب الأمّة
الإسلامية في صميمها، وتشتيت شملها واقتصادها وتحويلها من دول كبيرة قوية
إلى دول صغيرة ''متخلّفة''، داعيًا إلى الوقوف موقف الاعتدال. ووصف مفتي
عام السعودية مخطّطات مثيري المظاهرات بـ''الإجرامية الكاذبة'' لضرب الأمّة
والقضاء على دينها وقيمها وأخلاقها.
وقال إنّ الفوضويات الّتي انتشرت
في بعض البلدان العربية جاءَت للتدمير من أعداء الإسلام، قائلاً: ''يا شباب
الإسلام كونوا حذرين من مكائد الأعداء وعدم الانسياق والانخداع خلف ما
يروّج لنا، والّذي يهدف منه الأعداء إلى إضعاف الشعوب والسيطرة عليها
وإشغالها بالترهات عن مصالحها ومقاصدها وغاية أمرها''.
من جهته دعا
الشيخ عبد الله العثيم، رئيس المحكمة الجزئية بجدة سابقًا وقاضي الاستئناف
بمكة المكرمة، إلى تطبيق الأحكام القضائية التعزيرية في حقّ المتظاهرين
لإسقاط الأنظمة العربية الديكتاتورية، مؤكّدًا أنّ هذه الأحكام بانتظار كلّ
مَن يتم إحالته من الجهات المختصة عند ثبوت مشاركته في التّجمعات
والمظاهرات الّتي أفتت هيئة كبار العلماء بحرمتها ومخالفتها لولي الأمر
(الملك). وقال قاضي الاستئناف بمكة المكرمة ''إنّ الأحكام القضائية في مثل
هذه القضايا هي السجن والجلد تعزيرًا''، مؤكّدًا أنّ ''العقوبات التعزيرية
تتفاوت بناء على حثيثيات ملف كلّ قضية''.
تجدر الإشارة إلى أنّ الإسلام
في رؤيته لمَا يتعلّق بالإفتاء في مجال التظاهر يعتبر أنّ الأصل هو الإباحة
ما لَم يأت نص، كما أنّ الرؤية الإسلامية تعتبر مقاومة الاستبداد من أرقى
مراتب الجهاد، فهي كلمة الحق عند السلطان الجائر، وإنّ الحرية هي أحد مقاصد
الدِّين الكبرى في نظر العلماء.
مصدر
تضارب الفتاوى بشأن حُكم التّظاهر والاعتصامات