نور الهدى المشرفة العامة
عدد المساهمات : 16373 تاريخ التسجيل : 02/10/2009 العمر : 41
| موضوع: اجتماع سَكْرة الموت مع حَسْرَة الفوت 29/9/2010, 6:09 pm | |
| بسم الله الرحمن الرحيم
بعد السلام والتحية
احذر أخي المسلم اجتماع سَكْرة الموت مع حَسْرَة الفوت
الحمد لله الذي كتب الموت على كل حي، ولم يستثن منهم أحب خلقه وعباده إليه، بل أذاقه رسله وأنبياءه، بله وأصفى أصفيائه وأحب أحبائه محمداً صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم، فقال عز من قائل: "إنك ميت وإنهم ميتون"[1]، وقال: "وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن متَّ فهم الخالدون. كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون"[2]، وقال: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أوقتل انقلبتم على أعقابكم"[3]، وصحَّ[4] فيما يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه: "وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولابد منه".
وبعد..
جاء في تفسير قوله تعالى: "والتفت الساق بالساق"[5]، كما قال الحافظ ابن رجب الحنبلي[6] رحمه الله عن كثير من السلف: "أن المراد بذلك اجتماع سكرة الموت مع حسرة الفوت"؛ فلا يسأل عن عن سوء حاله، ولا رداءة مآله.
فالسعيد من طاب للموت وطاب له الموت، فجعل يشتاق إلى لقاء ربه لاستعداده لذلك، وتوقعه لما هنالك، والشقي من اجتمعت عليه الحسرتان، وتطابقت عليه الشدتان، واستبان له الخسران، وواجه مغبة التسويف، والمماطلة، والنسيان.
اعلم أخي الكريم أن للموت سكرات وأي سكرات؟! قال تعالى: "وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد"[7]؛ وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن للموت سكرات"؛ وروي: "إن الموت أشد من ضرب بالسيوف، ونشر بالمناشير، وقرض بالمقاريض"؛ ولهذا قال عيسى عليه السلام: "يا معشر الحواريين ادعو الله أن يهوِّن عليكم هذه السكرة"، وقال لحوارييه: "ادعو الله أن يخفف عني الموت، فقد خفت الموت خوفاً أوقفني مخافة الموت على الموت"؛ وروي عنه أنه لما قبض إبراهيم عليه السلام قال له عز وجل: "كيف وجدتَ الموت؟ قال: يارب، كأن نفسي تنزع بالسَّلى[8]؛ فقال: هذا وقد هونا عليك الموت"؛ وقال لموسى: "كيف وجدت طعم الموت؟ قال: وجدته كسفود[9] أدخل في صوف فاجتذب؛ قال: هذا وقد هونا عليك الموت".
إذا كانت هذه حال أولي العزم عند الموت، وقد هونه الله عليهم، فكيف تكون حالنا نحن يا ترى؟!
إن كنا نحن أبناء الموتى، وأن الله نعى إلينا نبينا صلى الله عليه وسلم ونعانا إلى أنفسنا، فما منا من أحد إلا وهو يحمل أصل شهادة وفاته، وما يستخرج له من شهادة بعد وفاته إن هي إلا صورة من تلك الشهادة: "إنك ميت وإنهم ميتون"، "كل نفس ذائقة الموت"، التي هي توقيع بخراب الدنيا، كما قال الحافظ ابن الجوزي؛ نعى رجلٌ لرجلٍ أخاه وقد وجده يتغدى، فقال: ادنُ تغدَّ، فقد نُعِيَ إليَّ أخي من قبل؛ فتعجب الرجل، من نعاه إليه وهو أول قادم؟ فتلى عليه: "إنك ميت وإنهم ميتون"؛ وأرواحنا عارية في أجسادنا، ولابد لصاحب العارية من ردها وقبضها.
لهذا علينا أن نكثر من ذكر هادم الذات، ومفرق الجماعات، وميتم البنين والبنات، ومؤيم الأزواج والزوجات، ومنغص العيشات، وعلينا أن نستعد له بتجديد التوبات، والحرص على الطاعات، والبعد عن المحرمات، والاستعداد للممات، والحذر من اجتماع الحسرات، والانغماس في الشهوات، واغتنام الفرص، والاستفادة من الأوقات.
ألم تعلم أخي الكريم أن إسرافيل ملتقم بوقه للنفخة الأولى قبل حين؟ وأن الساعة كادت أن تسبق بعثة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ؟ وأن أعمار هذه الأمة تتراوح بين الستين والسبعين، وقليل من يجاوز ذلك؟ فقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أعمار أمتي بين الستين إلى السبعين، وقليل من يجاوز ذلك"[10]، وقال: "أعذر الله إلى من بلَّغه ستين من عمره"[11]، وروي عنه أنه قال[12]: "معترك المنايا بين الستين إلى السبعين"، وفي حديث آخر: "إن لكل شيء حصاداً، وحصاد أمتي ما بين الستين إلى السبعين"، وفي هذا المعترك قُبض النبي صلى الله عليه وسلم، قال سفيان الثوري: من بلغ سن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليتخذ لنفسه كفناً؛ وقال وهب بن الورد: إن لله ملكاً ينادي في السماء كل يوم وليلة: أبناء الخمسين زرع دنا حصاده، أبناء الستين هلموا إلى الحساب، أبناء السبعين ماذا قدمتم؟ وماذا أخرتم؟ وأبناء الثمانين لا عذر لكم.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله لرجل: كم أتى عليك؟ قال: ستون سنة؛ قال له: أنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك، يوشك أن تبلغ؛ فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون؛ فقال الفضيل: من علم أنه لله عبد، وأنه إليه راجع، فليعلم أنه موقوف، وأنه مسؤول، فليعد للمسألة جواباً؛ فقال الرجل: ما الحيلة؟ قال: يسيرة؛ قال: ما هي؟ قال: تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى، فإنك إن أسأتَ فيما بقي أخذتَ بما مضى وبقي.
وأنت أخي الشاب، لا تأمن مكر الله، ولاتأمن الموت، ولا تظنن أنك في أمان منه، فقد يموت الصغير، ويعمر الشيخ الكبير، ويهلك الصحيح، ويصحُّ المريض؛ فكم من صغير دفنتَ، وشاب وشابة واريتَ؟ وكم من عروس قبرتَ؟ وشيخ عجوز عاصرتَ؟ فقد مات أبناء وبنات رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم قبله إلا فاطمة، ومات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز قبله، هذا على سبيل المثال لا الحصر.
ولله در الإمام أبي إسحاق الألبيري[13]، حيث قال يعظ ابنه أبا بكر، ويحثه ويحضه على طلب العلم، والاستعداد للدار الآخرة، في قصيدته التي مطلعها:
تفتُّ فـؤادك الأيــامُ فتـا وتنحتُ جسمك الساعات نحتاً
وتدعوك المنونُ دعاء صدق ألا يـا صاح أنتَ، أريد أنتَ
قال مذكراً ابنه أن الموت ليس قاصراً على الكبار دون الصغار:
ولا تقل الصبا فيه امتهـال وفكر كم صغيـراً قد دفنتَ
كان آخر خطبة خطبها العبد الصالح، والإمام العادل، والخليفة الراشد، عمر بن عبد العزيز رحمه الله، أن قال فيها: (إنكم لم تُخلقوا عبثاً، ولن تتركوا سدى، وإن لكم معاداً ينزل الله فيه للفصل بين عباده، فقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم جنة عرضها السموات والأرض، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيرثها بعدكم الباقون، كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين، وفي كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله، قد قضى نحبه، وانقضى أجله، فتودعونه، وتدعونه في صدع من الأرض، غير موسد ولا ممهد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وسكن التراب، وواجه الحساب، غنياً عما خلف، فقيراً عما أسلف، فاتقوا الله عباد الله قبل نزول الموت، وانقضاء مواقيته، وإني لأقول لكم هذه المقالة، وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما أعلم عندي، ولكن أستغفر الله وأتوب إليه؛ ثم رفع طرف ردائه، وبكى حتى شهق، ثم نزل، فما عاد إلى المنبر بعدها حتى مات رحمة الله عليه).[14]
فالحذر الحذر أخي الكريم من الغفلة وطول الأمل، وحب الدنيا، وكراهية الموت، فهذه أدواء مضلة، وأمراض مذلة، وأماني مخلة.
فالعاقل من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، واعلم أن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، واحرص أن لا يكون يقينك بوعد الله وبالمغيبات شبيهاً بالشك، سيما الموت.
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "لم أر يقيناً أشبه بالشك كيقين الناس بالموت، موقنون أنه حق، ولكن لا يعملون له"؛ فمن كد وجد، ومن زرع حصد، ومن اجتهد نجح، ومن عمل أفلح.
واعلم أن دوام الحال من المحال، فاليوم في الدور وغداً في القبور، واتق ليلة فجرها يوم القيامة، واعمل لدار السلامة، ولا تعجز فتكون في دار الندامة، فيس هناك إلا داران.
قال القحطاني رحمه الله في نونيته:
يوم القيامـة لـو علمتَ بهــوله لفررتَ من أهل ومن أوطان
يومٌ تشققت السمـــاءُ لهـولـه تشيب فيه مفـارقُ الولـدان
يوم عبـوسٌ قمطريـرٌ شــرُّه في الخلق منتشرعظيم الشان
والجنة العليـا و نــار جهنــم داران للخصمين دائمتــان
يوم يجيء فيه المجرمون إلى لظى يتلمظون تلمظ العطشــان
فكن أخي الكريم من الكيسين، عباد الله الفطنين، ولا تكن من المغرورين المخدوعين:
إن لله عبـــــاداً فطنــــاً طلقـوا الدنيا وخافوا الفتنـا
نظـروا فيهـا فلمــا علمــوا أنهـا ليست لحـي وطنــاً
جعلـوهـا لجــة واتخـــذوا صالح الأعمـال فيها سفنـاً
أقول كل هذا ولا أعلم أحداً عنده من الذنوب، وعليه من الوزر، ويحمل من التقصير، والتفريط، والتسويف أكثر مني، ولكن أستغفر الله وأتوب إليه، فإنه أهل التقوى وأهل المغفرة.
وأخيراً أقول كفى بالقرآن مذكراً، وبالرسول صلى الله عليه وسلم مبشراً ومنذراً، وبالموت واعظاً، وبالدهر مفرقاً.
اللهم يسرنا لليسرى، وانفعنا بالذكرى، واجعلنا ممن يخشاك في السر والنجوى، وممن يتقيك حق التقوى، وممن ختمتَ له بالحسنى، وجعلتَ عاقبته الفردوس الأعلى، وألحقت بهم أزواجهم، وذرياتهم، وذويهم، وأحبابهم، في الجنات العلى، وصلى الله وسلم وبارك على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، محمد، وعلى آله وصحبه السادات النجباء، والأكرام الفضلاء، ما أقلت أرض وأظلت سماء.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
--------------------
لا اله الا الله محمد رسول الله __________________
| |
|