مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف البدري
كان
أعطر أهل مكة ولد في النعمة,
وغذيّ
بها, وشبّ تحت خمائلها ،
وكان
حديث حسان مكة,
ولؤلؤة
ندواتها ومجالسها ،
وسمع عن
الإسلام والمسلمين في مكة وأنهم يجتمعون في دار الأرقم بن أبي الأرقم
،فذهب إلى هناك
ودخل
الإسلام إلى قلبه وأسلم على يد رسول الله ،
وكانت
أمه خنّاس بنت مالك تتمتع بقوة فذة في شخصيتها فخشيها مصعب,
وقرر أن
يكتم إسلامه حتى يقضي الله أمرا ،
حتى
علمت أمه وحبسته وأرادت أن ترده عن دينه ولكنها واجهت إصرار أكبر على
الإيمان من جانب الابن .
فقررت
أن تخرجه من بيتها وتحرمه من الأموال .
وقالت
له وهي تخرجه من بيتها
اذهب
لشأنك, لم أعد لك أمّا.
قال
يا أمّه
أني لك ناصح, وعليك شفوق, فاشهدي بأنه لا اله إلا الله, وأن محمدا عبده
ورسوله
أجابته غاضبة مهتاجة
قسما
بالثواقب,
لا أدخل
في دينك,
فيزرى
برأيي,
ويضعف
عقلي .
كان
مصعب بن عُمَير فتى مكة شبابًا وجمالاً،
وكان
أبواه يحبانه حُبًّا عظيمًا، وكانت أمه من أغنى أهل مكة،
تكسوه
أحسن الثياب وأجمل اللباس، وكان أعطر أهل مكةفلما أسلم انخلع من ذلك كله،
وأصابه
من الشدة والتعذيب والبلاء ما غيّر لونه وأذهب لحمه ونهك جسمه،
و انقلب
نعيم عيشه بؤسًا وفقرًا، وحالُ ترفه جوعًا ونصبًا، لكنه لم يبال،
فكل شيء
لله يهون
أقبل
مصعبُ يومًا بعد أن صار إلى ما صار إليه بعد إسلامه،
أقبل
وعليه نمرة قد وصلها بإهاب يستر بها بدنه النحيل، فلما رآه أصحاب النبي
نكسوا رؤوسهم رحمةً له،
ليس
عندهم من الثياب ما يقدمونه له،
ولمن
يقدمون لو وجدوا؟ يقدمونه لمن كان يومًا أنعم قريش عيشًا وأعطرهم،
لقد صار
مصعب مضرب المثل في الزهد والفقر وقلة الحال بعد أن كان مضرب المثل لفتيان
مكة في الترَف ورغد العيش،
لذا
قال عمر بن الخطاب لما رآه يومًا: (انظروا
إلى هذا الرجل الذي نوّر الله
قلبه،
لقد
رأيته بين أبوين يغذوانه بأطيب الطعام والشراب، ولقد رأيت عليه حلَّةً
اشتريت له بمائتي ألف درهم،
فدعاه
حبُّ الله ورسوله إلى ما ترون).
لقد
تعرّض للعذاب والإذاء جسديًا ومعنويًا، وبالله عليكم كيف ترون الجسد الناعم
المرفّه إذا عذّب في رمضاء مكة؟!
حلفت
أمه أن لا تأكل ولا تشرب ولا تستظل حتى يرجع عن دينه ويترك محمدًا،
غير أن
الإيمان يأبى عليه ذلك، يأبى عليه أن يبيع النور بالظلام والهدى بالضلال،
فثبت
على دينه حتى كادت أمه تموت وإنه لغير مكترث.
أخذه
قومه فقيدوه بالأصفاد وحبسوه حتى تغير لونه ونحل جسده ونهك جسمه،
وإنه
لغير مكترث، ومضى مصعب يجرُّ قدميه فوق الشوك،
يعالج
طريق الجنة التي حفت بالمكاره،
حتى
إذا سهل الله الفرج هاجر إلى الحبشة،
فترك
وطنه، وودع حبيبه رسول الله فارًا بدينه مع ثلة من المؤمنين الصادقين.
وفي
الحبشة يبلغهم أن قريشًا هادنت المسلمين وتركتهم وما يريدون،
فيعود
مصعب مع من عاد، فإذا قريش لا كما عهدوا من كفرها وغيها،
بل قد
ازدادت شراسةً عمّا كانت عليه من قبل،
ولا
حقيقة لما بلغهم من أمر الهدنة، فرجع مصعب فارًا بدينه مع أهل الهجرة
الثانية إلى الحبشة.
وتمضي
الأيام ويعود مصعب إلى مكة مشتاقًا إلى رسول الله وليشهد هذه المرة محنة
الحصار في الشعب،
وفي
الشعب صبر مصعب وصابر حتى أنهكه الجوع والعطش،
فخارت
قواه حتى صار لا يقدر على المشي، فكان المسلمون يحملونه على أكتافهم.
وبعد
أعوام تأتي طليعة الأنصار الأولى لتسلم وتبايع البيعة الأولى، فيبعث رسول
الله معهم أول سفير في الإسلام مصعب الخير
معلّمًا
وداعية وإمامًا،
وفي عام
واحد تسلم المدينة كلها إلا من شاء الله،
تسلم
على يد مصعب سادةً وأتباعًا، صغارا وكبارا،
رجالا
ونساءً، الأنصار كلهم حسنة في ميزان مصعب ،
سفير الإسلام
اختاره
الرسول أن يكون سفيره إلى المدينة,
يفقّه
الأنصار الذين آمنوا وبايعوا الرسول عند العقبة,
ويدخل
غيرهم في دين الله, ويعدّ المدينة ليوم الهجرة العظيم ،
وقد
أختاره الرسول لرجاحة عقله وكريم خلقه وزهده وبها كان أول سفير للإسلام ،
وقد
جاءها وليس فيها سوى اثني عشر مسلما ،
وفي
موسم الحج التالي لبيعة العقبة,
كان
مسلمو المدينة يرسلون إلى مكة للقاء الرسول وفدا يمثلهم وينوب عنهم ،
وكان
عدد أعضائه سبعين مؤمنا ومؤمنة ، جاءوا تحت قيادة مصعب ابن عمير.
وقد
أسلم على يديه أسيد بن خضير
سيد بني عبد الأشهل بالمدينة,
فجاء
شاهرا حربته و يتوهج غضبا وحنقا على هذا الذي جاء يفتن قومه عن دينهم فلما
أقنعه أن يجلس ويستمع,
فأصغى
لمصعب واقتنع وأسلم ،
وجاء
سعد بن معاذ فأصغى لمصعب واقتنع,
وأسلم
ثم تلاه سعد بن عبادة ، وأسلم كثيرا من أهل المدينة ،
فقد
نجح أول سفراء الرسول صلى الله عليه وسلم نجاحا منقطع النظير .
غزوة أحد
وبعد
هجرة الرسول وصحبه إلى المدينة ، وحدثت غزوة بدر]] ،
تلتها
غزوة أحد الذي أمر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم مصعب ليحمل الراية ،
وتشب
المعركة الرهيبة,
ويحتدم
القتال, ويخالف الرماة أمر الرسول ،
فقد
حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد, فلما جال المسلمون ثبت به مصعب,
فأقبل
ابن قميئة وهو فارس,
فضربه
على يده اليمنى فقطعها,
ومصعب
يقول: وما محمد إلا رسول قد خلت من
قبله الرسل,
وأخذ
اللواء بيده اليسرى وحنا عليه,
فضرب
يده اليسرى فقطعها,
فحنا
على اللواء وضمّه بعضديه إلى صدره وهو يقول: وما محمد إلا
رسول قد خلت من قبله الرسل,
ثم حمل
عليه الثالثة بالرمح فأنفذه وأندق الرمح, ووقع مصعب, وسقط اللواءفحمله أحد
المسلمين .
يقول خبّاب بن الأرت
هاجرنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل اله, نبتغي وجه الله,
فوجب
أجرنا على الله.. فمنا من مضى, ولم يأكل من أجره في دنياه شيئا,
منهم
مصعب بن عمير, قتل يوم أحد.فلم يوجد له شيء يكفن فيه إلا نمرة..
فكنا
إذا وضعناها على رأسه تعرّت رجلاه, وإذا وضعناها على رجليه برزت رأسه,
فقال
لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوها مما يلي رأسه, واجعلوا على
رجليه من نبات الاذخر .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مِنْ الْمُؤْمِنِينَ
رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى
نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً .