كان
من أعظم أيام العرب ، وأبلغها في توهين أمر الأعاجم ، وهو يوم لبني شيبان
، وهوأول يوم انتصرت فيه العرب على العجم . وخبره كالتالي :
ذكر
كسرى بن هرمز يوماً الجمال العربي ، وكان في مجلسه رجل عربي يقال له : زيد
بن عدي ، وكان النعمان قد غدر بأبيه وحبسه ثم قتله ، فقال له : أيها
الملك العزيز إن خادمك النعمان بن المنذر عنده من بناته وأخواته وبنات عمه
وأهله أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة .
وأرسل
كسرى زيداً هذا إلى النعمان ومعه مرافق لهذه المهمة ، فلما دخلا على
النعمان قالا له : إن كسرى أراد لنفسه ولبعض أولاده نساءاً من العرب ،
فأراد كرامتك ، وهذه هي الصفات التي يشترطها في الزوجات . فقال له ا لنعمان
: أما في مها السواد وعين فارس ما يبلغ به كسرى حاجته ؟ يا زيد سلّم على
كسرى ، قل له : إن النعمان لم يجد فيمن يعرفهن هذه الصفات ، وبلغه عذري .
ووصل زيد إلى كسرى فأوغر صدره ، وقال له : إن النعمان يقول لك : ستجد في
بقر العراق من يكفينك .
فطار
صواب كسرى وسكت لكي يأمن النعمان بوائقه ، ثم أرسل إلى النعمان يستقدمه ،
فعرف النعمان أنه مقتول لا محالة ، فحمل أسلحته وذهب إلى بادية بني شيبان
حيث لجأ إلى سيدهم هانئ بن مسعود الشيباني وأودع عنده نسوته ودروعه وسلاحه
، وذهب إلى كسرى ، فمنعه من الدخول إليه وأهانه ، وأرسل إليه من ألقى
القبض عليه ، وبعث به إلى سجن كان له ، فلم يزل به حتى وقع الطاعون هناك
فمات فيه .
وأقام
كسرى على الحيرة ملكاً جديداً هو إياس بن قبيصة الطائي ، وكلفه أن يتصل
بهانئ بن مسعود ويحضر ما عنده من نساء النعمان وسلاحه وعتاده ، فلما تلقى
هانئ خطاب كسرى رفض تسليم الأمانات ، فخيره كسرى إما أن يعطي ما بيده ، أو
أن يرحل عن دياره ، أو أن يحارب ، فاختار الحرب ، وبدأ يعد جيشاً من بكر
بن وائل ومن بني شيبان ومن عجل ويشكر والنمر بن قاسط وبني ذهل .
وفي
أثناء ذلك جمع كسرى نخبة من أبطال الفرس ومن قبائل العرب التي كانت موالية
له وخصوصاً قبيلة إياد ، ووجههم ليجتاحوا هانئاً ويحضروه صاغراً إلى
كسرى.
فلما
وصل جيش كسرى وحلفاؤهم من العرب أرسلت قبيلة إياد إلى هانئ : نحن قدمنا
إلى قتالك مرغمين ، فهل نحضر إليك ونفرّ من جيش كسرى؟ فقال لهم : بل
قاتلوا مع جنود كسرى ، واصمدوا إلينا أولاً ، ثم انهزموا في الصحراء ، وإذ
ذاك ننقض على جيش كسرى ونمزقهم .
وقدم
الجيش الفارسي وحلفاؤهم من إياد فوجدوا جيش هانئ قد اعتصم بصحراء لا ماء
فيها ولا شجر ، وقد استقى هانئ لجيشه من الماء ما يكفيهم ،فبدأ الفرس
يموتون من العطش ، ثم انقضوا على جيش هانئ كالصواعق ، وبينما هم في جحيم
المعركة انهزمت قبيلة إياد أمام هانئ وانقضت على الفرس الذين حولها ،
فأثخنت فيهم ومزقتهم ، وقتل كل أبطال فارس الذين أرسلهم كسرى لإحضار هانئ
حياً ، فلما رجعت بعض فلول الفرس إلى كسرى إذا هم كالفئران الغارقة في
الزيت .
وكانت
ساحة ذي قار أرضاً يغطي الزفت والقطران كثيراً من أرضها ، فلما رآهم كسرى
على ذلك الشكل قال لهم : أين هانئ ؟ وأين أبطالكم الذين لا يعرفون
الفرار، فسكتوا فصاح بهم ، فقالوا : لقد استقبلنا العرب في صحرائهم فتهنا
فيها ومات جميع القادة وخانتنا قبيلة إياد حين رأوا بني جنسهم ، فكاد كسرى
يفقد عقله ، ولم يمضي عليه وقت قصير حتى مات حسرة ، فتولى مكانه ابنه
شيرويه .
وقد
حدث بعض من حضر يوم ذي قار أن قبائل بكر استصحبوا من خلفهم نساءهم وانقضوا
على الجيش الفارسي ، فبرز أحد العلوج وطلب المبارزة فانقض عليه عربي من
بني يشكر اسمه برد بن حارثة اليشكري فقتله ، وكان هانئ قد نصب كميناً من
وراء الجيش الفارسي ، فانقض الكمين على الملك الجديد الذي كان كسرى عينه
خلفاً للنعمان بن المنذر ، وفي أثناء ذلك أحس العرب روابط الأخوة التي
تنتظمهم ، فانسحب من جيش فارس كثير من العرب الذين كانوا يعطون ولاءهم
لفارس من قبائل تميم وقيس عيلان فانقضوا على الفرس الذين يلونهم بعد أن
كانوا يدينون بالولاء لهم ، وعرف العرب أنهم كانوا مخدوعين بملك رخيص كان
كسرى يضحك به على بعض أذنابه منهم .
وروي
عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما بلغه انتصار قبائل بكر بقيادة هانئ بن
مسعود الشيباني على عساكر الفرس قال : ( هذا أول يوم انتصف فيه العرب من
العجم ، وبي نصروا ) .
والحق
أن انتصار العرب على العجم في ذي قار كان نواة لمعركة القادسية التي أعز
الله فيها قبائل العرب بنور الإسلام ، ونبوة محمد عليه الصلاة والسلام .