من روائع التعبير القرآني
1) يفعل ... و ... يخلق :
1 - قال الله تعالى في سورة آل عمران : { قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } [ آل عمران : 40 ]
2 - وقال سبحانه في نفس السورة : { قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ آل عمران : 47 ]
السياق الأول ورد على لسان زكريا عليه السلام عندما تضرع إلى ربه ليهبه ذرية صالحة ، ثم جاءت الاستجابة مع وجود الموانع لهذا الإنجاب من كبر السن ووجود العقم { قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } . والسياق الثاني جاء على لسان التـقية الصالحة مريم - عليها السلام - عندما تعجبت من مجيء الولد وهي ليست بذات زوج . { قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ }
والسؤال لماذا استعمل في السياق الأول لفظة ( يفعل ) وفي السياق الثاني لفظة ( يخلق ) ؟ ان استعمال لفظة ( يفعل ) في السياق الأول يناسب مقام وجود الزوج والزوجة وإن كان وجود العقم والشيخوخة مانعا للإنجاب . أما في السياق الثاني فلأن خلق عيسى عليه السلام هو خرق للناموس الكوني في سبب الإنجاب ، وهو إيجاد واختراع من غير سبب يؤدي إليه فناسب المقام هنا استخدام لفظ ( يخلق ) دون ( يفعل ) فسبحان مَن هذا كلامه !! [ الاعجاز القرآني وأثره على مقاصد التنزيل الحكيم - بتصرف ]
2) أوتوا الكتاب ... و ... آتيناهم الكتاب : الفرق بين ( أوتوا الكتاب وآتيناهم الكتاب ) في البيان القرآني :
من روائع التعبير القرآني ما نراه في الكلام على الذين أوتوا الكتاب ، ففي البيان القرآني نجد انه إذا كان المقام مقام مدح وثناء لأهل الكتاب فإن المولى تبارك وتعالى يظهر ذاته وينسب إيتاء الكتاب إلى نفسه : { ءاتيناهم الكتاب } وإذا كان المقام مقام ذم وتقريع لهم نجده يبني فعل الإيتاء للمجهول فيقول : { أوتوا الكتاب } وإليك الأمثلة :
1 - يقول تعالى : { فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا }[ النساء : 54 ]
2 - ويقول تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ .. } [ الجاثية : 16 ]
3 - ويقول سبحانه : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ .. } [ القصص : 52 ]فأنت ترى أنه أسند الإيتاء إلى نفسه في مقام المدح ، في حين قال :
1 - { نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 101 ] 2 - وقال : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ } [ آل عمران : 23 ]3 - وقال : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [ آل عمران : 186 ]وغيرها من الآيات ... فأنت ترى أنه في مقام الذم يبني الفعل للمجهول فيقول : {أُوتُوا الْكِتَابَ } .... 3) مشرق ومشرقين ومشارق :1 - { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا } [ المزمل : 9 ]2 - { رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ } [ الرحمن : 17 ]3 - { فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } [ المعارج: 40 ]
في الآية الأولى جاء ذكر المشرق والمغرب في صيغة المفرد وفي الثانية في صيغة المثنى وفي الثالثة في صيغة الجمع فما هو السبب في اختلاف الصيغ بلاغيا ً ؟والجواب إذا قرأنا الآيات مع سوابقها وبتدبر وإمعان فالآية الأولى تبدأ : {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا . رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا} وكما نلاحظ أن ذكر رب المشرق والمغرب هنا كان مقرونا باسم الجلالة فالله سبحانه وتعالى يأمر رسوله بأن يذكر اسم ربه وأن يتبتل إليه , والتبتل هو الاتجاه الكلي لله وحده بالعبادة والإخلاص فيها بالخشوع والذكر , فليس للرحمن من شريكة ولا ولد ويأتي ذلك مؤكدا في المقطع الثاني من الآية : {لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا } ففي هذا المقام الذي يؤكد الله فيه وحدانيته لعبده ويدعوه لعبادته وحده عبادة خالصة مخلصة نجد أن صيغة المفرد هنا هي أنسب الصيغ وذكر المشرق والمغرب في صيغة المفرد يكمل جو الوحدانية الذي نعيش فيه مع هذه الآية الكريمة .. أما في الآية الثانية فالوضع يختلف ولنبدأ ببعض الآيات التي تسبق الآية الثانية قال تعالى : {خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ . وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ . فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ . فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ . بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ . فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ . فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } الحديث في هذه الآيات كلها في صيغة المثنى يذكرنا فيها الرحمن بأنه هوالذي خلق الإنس والجان وأنه هو رب المشرقين والمغربين وأنه هو الذي مرج البحرين ليلتقيا ولكن بدون أن يبغي أحدهما على الآخر ومنهما يخرج اللؤلؤ والمرجان فصيغة المثنى هي الغالبة في هذه الآيات وكذلك فقد يبدو من الأنسب أن يذكرا المشرقين والمغربين أيضا في صيغة المثنى . وبالمثل في الآية الثالثة فإذا كتبناها مع سوابقها ولواحقها من الآيات الكريمة عرفنا سبب ذكر المشرق والمغرب في صيغة الجمع قال تعالى : {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ . عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ . أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ . كلا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ . فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ . عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} فالحديث هنا كما يلاحظ القارئ منصب على الذين كفروا ولذلك ذكرت المشارق والمغارب على نفس النمط في صيغة الجمع أيضا حتى يتأتى التوافق في الصيغ الذي وجدناه في الآيتين السابقتين .
.. لا شك في أن التوافق الذي رأيناه في صيغ الآيات الثلاث السابقة هو مثل حي من بلاغة الأسلوب القرآني وجمال تعبيره ... [ آيات قرآنية في مشكاة العلم د. يحيى المحجري - بتصرف ]4) الحرث : قال الله تعالى : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } [البقرة : 223]تأمل - أخي القارىء - كيف استعمل لفظة : { حرثكم } وهي لفظة دقيقة معبرة .. ذلك لأنه لما كان الجماع يحتمل معنى ( كيف ) و ( أين ) احترس سبحانه بقوله : { حرثكم } ، لأن الحرث لا يكون إلا حيث تنبت البذور ، وينبت الزرع ، وهو المحل المخصوص . [ البرهان للزركشي 1 : 67 ] 5) أمران ونهيان وخبران وبشارتان :
هناك آية كريمة في كتاب الله قد جمعت بين أمرين و نهيين و خبرين و بشارتين !! وهي من أعظم آيات القرآن الكريم فصاحةً وهذه الآية هي قوله تعالى : {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } [ القصص : 7 ]تأمل - أخي القارىء - كيف جمعت ذلك : أما الأمرين فهما : { أَرْضِعِيهِ } و { فَأَلْقِيهِ } وأما النهيان فهما : { لا تَخَافِي } و { لا تَحْزَنِي }وأما الخبران فهما : { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى .. } و { خِفْتِ عَلَيْهِ }وأما البشارتان فهما : { إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ } و { وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ }وأسجل هنا ما نقله القرطبي - رحمه الله تعالى - في تفسيره عن الأصمعي قال : سمعت جارية أعرابية تنشد وتقول:
أَسْتَغْفِر اللَّه لِذَنْبِي كُلّه قَبَّلْت إِنْسَانًا بِغَيْرِ حِلّه *** مِثْل الْغَزَال نَاعِمًا فِي دَلِّهِ فَانْتَصَفَ اللَّيْل وَلَمْ أُصَلِّهِ فقلت: قاتلك الله ما أفصحك ، فقالت: أيُعَدُّ هذا فصاحة مع قوله تعالى : { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين!!6) ثنى ثم جمع ثم أفرد :
قال الله سبحانه وتعالى : { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [ يونس:87 ]لماذا ثنى في الخطاب ثم جمع ثم أفرد ؟ الجواب : ثنى في الأول { تَبَوَّءا } لأنه خوطب أولاً موسى وهارون لأنهما المتبوعان، ثم سيق الخطاب عاماً : { وَاجْعَلُوا } و { وَأَقِيمُوا } لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها ، ثم خص موسى بالبشارة بقوله { وَبَشِّر } تعظيماً له . [ البرهان للزركشي 2 / 242 ]
7) إفراد ( النور ) وجمع ( الظلمات) :
يقول الله سبحانه وتعالى : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة:257 ]
ويقول سبحانه : { الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [ ابراهيم:1 ]
ويقول سبحانه : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } [ ابراهيم:5 ]
ويقول سبحانه : { هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ } [ الحديد:9 ]
والسؤال لماذا يُفرد القرآن النور ويجمع الظلمات ؟ ما هو المغزى الدلالي ؟ الجواب : ان طريق الحق واحد ، إذ مرده إلى الله الحق ، وطُرق الباطل متشعبة متعدده . ولما كانت الظلمة بمنزلة طرق الباطل المتشعبة والنور بمنزلة طريق الحق ، أفرد النور وجمع الظلمات ، وهذا من اعجاز القرآن [ بدائع الفوائد بتصرف ]
8) وتدلوا :
من روائع التعبير القرآني ما نجده في استعمال كلمة ( تُدْلُوا ) من قوله تعالى : { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 188 ]
فكلمة ( تُدلوا ) تبين أن اليد التي تأخذ الرشوة هي اليد السفلى، مع كون الحكام الذين تُلقى إليهم الأموال في الأعلى لا في الأسفل ، ومن هنا استعمل كلمة ( تدلوا ) لتعبر في بلاغة لامثيل لها عن دناءة المرتشي وسفله ولو كان في الأعلى من حيث المنصب وموقع المسؤولية .
9) وإن طائفتان من المؤمنين " اقتتلوا " فأصلحوا " بينهما " :
تأمل - أخي القارىء - إلى الدقة والخفاء واللطف فى هذه الآية الكريمة :
{ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } [ الحجرات : 9 ]
مرة عوملت الطائفتان على أنهما جمع " اقتتلوا " ومرة على أنهما مثنى " فأصلحوا بينهما " والسر لطيف.
فالطائفتان في القتال تلتحمان وتصبحان جمعاً من الأذرع المتضاربة.. فى حين أنهما في الصلح تنفصلان إلى اثنين.. وترسل كل واحدة عنها مندوبا، ومن هنا قال : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( اقْتَتَلُوا ) فَأَصْلِحُوا ( بَيْنَهُمَا ) }
10) من إملاق وخشية إملاق :
تأمل - أخي القارىء - فى آية قتل الأولاد من الفقر تراها جاءت على صورتين : الأولى هي قوله تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } [ الانعام : 151 ] و الثانية هي قوله تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ } [ الاسراء : 31 ]
والفرق بين الآيتين لم يأت اعتباطاً، وإنما جاء لأسباب محسوبة.. فحينما يكون القتل من إملاق فإن معناه أن الأهل فقراء في الحاضر، فيقول : ( نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) وحينما يكون قتل الأولاد خشية إملاق فإن معناه أن الفقر هو احتمال فى المستقبل ولذا تشير الآية إلى الأبناء فتقول : ( نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ) .. مثل هذه الفروق لا يمكن أن تخطر على بال مؤلف ..
11) كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ :
يقول ربنا تبارك في سورة الشعراء : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ } [ الشعراء : 106 ]
ويقول : { كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ } [ الشعراء : 124 ]
ويقول : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ } [ الشعراء : 142 ]
ويقول : { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ } [ الشعراء : 161 ]
ثم تأتي آية أخرى في نفس السياق ولكن لاحظوا الفرق : { كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ } [ الشعراء : 178 ]
فلماذا لم يقل الله تعالى " أخوهم شعيب " في هذه الآية بالذات ؟ لماذا قال شعيب؟
لماذا عندما ذكر الله هود و صالح و لوط في الآيات السابقة قال " أخوهم " ولكن عند ذكر شعيب لم يقل أخوهم؟
والجواب : لأنهم نسبوا في هذه الآية إلى عبادة الأيكة وهي شجرة كانوا يعبدونها من دون الله فلذلك الله سبحانه وتعالى لم يقل أخوهم شعيب ، فشعيب عليه السلام ليس أخوهم في عبادة هذه الشجرة .
13) تناصف عجيب :
يقول ربنا تبارك وتعالى في سورة الليل من الآية 5 حتى 10 : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى }
نجد في الآية ثلاثة حالات ونتيجة ويقابلها : { وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } ثلاثة حالات ونتيجة أيضاً ! مثال آخر على التناصف : يقول ربنا تبارك وتعالى في النحل الآية 90 وهي أجمع آية للخير والشر كما قال ابن مسعود رضي الله عنه وهي : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى }
نجد في الآية ثلاثة أوامر يقابلها : { وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ } ثلاثة نواه ! 12) ذكر ( وَالْمُؤْمِنُونَ ) وحذفها :
وردت آيتان كريمتان تتحدثان عن أمر واحد في سورة واحدة ... ومع ذلك اختلف التعبير في كل منها :
أخبر الله تعالى بأنه سيرى العمل هو ورسوله في قوله تعالى في سورة التوبة : { وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) }.
وأخبر في آية تالية في نفس السورة بأنه سيرى عملهم هو ورسوله والمؤمنون وذلك في قوله تعالى : { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) }.
الآية الأولى كانت في سياق الحديث عن المنافقين ... وهم كفار اتخذوا وسيلة إظهار الإسلام وإبطان الكفر محاولة يائسة لنقض الإسلام من داخله ... أما الثانية فقد جاءت في سياق الحديث عن المؤمنين الصالحين ودعوتهم إلى العمل الصالح وخاصة دفع الزكاة.
جاء حذف كلمة { والمؤمنون } في سياق الآية الأولى لأن الكلام فيها عن المنافقين ... ولطبيعة النفاق فإن المسلمين لا يعلمون ما يخفي المنافق في قلبه، لأنهم لا يعلمون الغيب.
والله تبارك وتعالى عالم السر وأخفى أخبر سيدنا محمدا بأسمائهم كلهم .
هم قدموا أعذارهم المقبولة ظاهريا أمام المسلمين ولكن الله ورسوله يعلمان كذبها ، لكن باقي المؤمنين لا يعلمون ذلك .
أما في الآية الثاني فهي في سياق الحديث عن أعمال المسلمين الظاهرة المكشوفة من صلاة وزكاة ... يراها إخوانهم المسلمون ويطلعون عليها .
وهناك قضية أخرى وهي سر التعبير بـ ( ثم ) في الآية الأولى والتعبير بالواو في الآية الثانية.
بيَّن ذلك الكرماني بقوله : " الآية الأولى في المنافقين ولا يطلع على ضمائرهم إلا الله ثم رسوله بإطلاع الله إياه... والثانية في المؤمنين وطاعات المؤمنين وعاداتهم الظاهرة لله ولرسوله وللمؤمنين.....
وختم آية المنافقين بقوله { ثم تردون } فقطعه عن الأول لأنه وعيد ......
وختم آية المؤمنين بقوله { وستردون } لأنه وعد ... فبناه على قوله { فسيرى الله عملكم }..."
وفي اختلاف التعبير دلالة أيضا على استعجال الوعد وعدم استعجال الوعيد :
وعدُ الله للمؤمنين بقبول أعمالهم مباشرة ... فالصدقة تقع في يد الله تعالى قبل وقوعها في يد الفقير... وفي ذلك إشارة إلى عاجل بشرى المؤمن.
ووعيد الكفار بفضحهم وتعذيبهم في نار جهنم .. إن لم يتوبوا :
( ثم ) تفيد الترتيب مع التراخي.. وهي تحمل معنى إمهالهم وعدم التعجيل بعذابهم لفتح باب التوبة لهم ليعودوا ...
وإلا
فلا يظنون ـ إن طال بهم الأمد ـ أن الله راضٍ عنهم أو نسيهم .... إن الله يمهل ولا يهمل... فإن لم ينالوا عذابهم في الدنيا ... فعذاب الآخرة أشد .
فهل أحلم من الله على عباده ..[ قبسات من الاعجاز البياني في القرآن - اعداد الاستاذ عبد الرحيم الشريف ]
هذه بعض الأمثلة للدقة البالغة والنحت المحكم فى بناء العبارة القرآنية وفى اختيار الألفاظ