لفت انتباهي و أنا أقرأ قصة سيدنا موسى عليه السلام في سورة الأعراف وجود مشهدين متعاكسين لعمليتين وقعتا لجبلين يقعان في منطقتين متباعدتين و بفاصل زمني بينهما قد يصل إلى 50 عاما. كلا الحادثين وقع تحت سمع وبصر سيدنا موسى عليه السلام.
1 ــ المشهد الأول: عملية الدك والإزالة.
يقول الله تعالى:
{وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ }الأعراف143
هذه قصة حقيقية أوردها الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم، تتحدث عن خسف أو نسف أو دك لجبل عظيم بحضور البشر، وقد صاحب هذا الحادث هلع وصوت عظيم صعق موسى بسببه وانهار وسقط على الأرض فاقدا وعيه.
رأى موسى هذا المشهد الرهيب بدل أن يرى ذات الله عز وجل فلم يتحمله, رغم أن الله عز وجل أظهر للجبل مقدار بسيط جدا من قدرته فاندك هذا المخلوق الكبير المتين وزال من على سطح الأرض في لمح البصر كأن لم يكن من قبل شيئا، فأراد الله تعالى من موسى والبشر جميعا أن يفهموا وأن يدركوا بأن قدرتهم جد محدودة، وعليهم أن يصرفوا تفكيرهم إلى ما يعرفهم أكثر بربهم ويبصرهم بحقيقة وجودهم في الأرض |
|
موقع جبل موسى في شبه جزيرة سيناء |
. إذا بامكان البشر أن ينظروا إلى ما حدث لذلك الجبل ويتصوروه بأذهانهم ويدرسوه بإمكانياتهم، فالقرآن يتحدث عن زوال جبل من على سطح الأرض بشكل مفاجئ وغير طبيعي، مع بقاء أثر الدك {جعله دكا} دون أن يشير إلى أن الله تبارك وتعالى قد أرجع الجبل كما كان من قبل. ويطيب لي القول أن الله تبارك وتعالى أكبر وأعز وأجل من أن يتحدث عن أمر مادي وعمل فيزيائي يمكن التحقق من وقوعه دون أن يترك هناك الدليل المادي القاطع اليقيني على صدق كلامه سبحانه وهو عليه أهون.
أظن وأتصور أن اتجاه قوة الدك الرهيبة كانت من أعلى إلى أسفل وقد أحدثت أنواعا مختلفة من التغيير في لمح البصر للمنطقة المقصودة والتي لا تزال موجودة في مكانها حتما:
ا ــ التغيير المورفولوجي: تغيير واضح لظاهر سطح المنطقة وتضاريسها، فقد كان هناك جبل عال وزال متحولا إلى سهل أو فج عميق.
ب ــ التغيير الجيولوجي الستراتغرافي: قوة الدك ضغطت مكونات الجبل وما تحتها من طبقات القشرة الأرضية مغيرة مكوناتها وسماكتها ونظام ترتيبها الجيولوجي.
ج ــ التغيير المعدني: الضغط الشديد لقوة الدك وسرعته الكبيرة يغير ترتيب معادن الصخور في الجبل المندك وفي جميع الطبقات التي في أسفله والتي هي على جوانبه.
|
منظر لجبل موسى في شبه جزيرة سيناء ـ مصر |
2 ــ المشهد الثاني: عملية الخلع والرفع
قال الله تعالى:
{وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَْْْ} الأعراف171
يتحدث الحق تبارك وتعالى عن رفع جبل الطور فوق مجموعة من الناس كأنه سحابة، وواضح تماما أن هؤلاء الناس شاهدوا بأعينهم عملية خلع الجبل من مكانه ثم رفعه إلى أعلى، وبقائه في الهواء فوق رؤوسهم معلقا كالسحابة مدة الله أعلم بها، حيث أراد الله أن يهددهم بالسحق بواسطة الصخور الضخمة التي يتكون منها الجبل، وقد حدد الله تعالى إسم الجبل الذي رفع وهو الطور، وهو جبل لا يزال قائم ومعروف جيدا، مما يعني أن الله تعالى أرجع الجبل إلى مكانه أو مكان آخر بعد توبة القوم وتضرعهم، والقرآن لم يتحدث عن عملية إنزال الجبل ولا المكان الذي وضع فيه، لكن الأمر اليقيني هو: أن الجبل قد تعرض لعملية تحريك هائلة تتضمن ثلاث مراحل متتالية وسريعة يمكن تصويرها كالتالي:
1ــ إقتلاع الجبل بأكمله من مكانه، فلفظة نتقنا تعني في اللغة الإقتلاع من الأصل،والمقصود هو إجتثاث الجبل بجذره الممتد في باطن الأرض آلاف الأمتار ضعفي ارتفاعه فوق سطح الأرض, مع ما يصاحب ذلك من حركة كالزلزال العنيف تضرب المنطقة المحيطة بجبل الطور, وصدور أصوات الإنفجارات الضخمة الناتجة من احتكاك الصخور ببعضها وارتطامها وتطايرها, وضغط الهواء, والتشوهات الطبقية و التكتونية المصاحبة لعملية الخلع.
2 ــ رفع الجبل عموديا إلى أعلى حتى قارب في ارتفاعه السحاب {كأنه ظلة} مع ضخامته ووزنه الذي يفوق حتما ملايين الأطنان، حيث أنه حجب عين الشمس عن الناس المحاصرين في مكانهم بالرعب وهول الحدث ورجفة الأرض من تحت الأقدام.
3 ــ تحريك الجبل أفقيا في الهواء حتى صار فوق رؤوس الناس ثم إنزاله إلى الأرض. ويبدو لي من قوله تعالى { وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ } أن الجبل لم يكن ثابتا في السماء بل كان يتحرك هبوطا وصعودا دون أن يلامس رؤوس الناس، حيث ظنوا في كل مرة يرونه نازلا أنه واقع بهم حتما، فلو كان ثابتا لتشكل لديهم شيء من الإطمئنان، خاصة وأن هؤلاء النفر كانوا من قوم قلوبهم أشد قسوة من الحجارة، وأقرب الظن أن أفئدة أولائك الناس كانت تنخلع من مكانها هلعا ورعبا كلما رأوه يهوي نحوهم فيفقدون وعيهم، وكلما أفاقوا وجدوه يكاد يقع عليهم.
في هذا المشهد كان إتجاه قوة الفعل من أسفل إلى أعلى عكس الحالة الأولى.
خلاصات:
من المشهدين السابقين تتجلى بين أيدينا حقائق خطيرة ومهمة ترسخ اليقين في القلوب وتبدد الأوهام من الأذهان، وتدفع العقول إلى التأمل العميق والبحث العلمي المنهجي الدقيق:
1 ــ أن قدرة الله مطلقة لا حدود لها و أن كل ما في الأرض ملك له يفعل به ما يشاء يبقي عليه أو يدمره ولو كانت الجبال ذاتها.
2 ــ في كلا المشهدين استعمل القوي القدير أعظم ما تراه عين الإنسان على سطح الأرض وهي الجبال لإظهار أبسط قدر من قوته وسيطرته وبطشه وجبروته، وليثبت في وعي الناس أن كل ما يرونه أمامهم حتى ولو كان ثابتا جامدا قد يستعمل في إهلاكهم إذا استحقوا الهلاك { ما يعلم جنود ربك إلا هو}
3 ــ شهد الواقعتين كلتيهما موسى عليه السلام، فهو النبي الأسمى عند اليهود ومحترم عند النصارى و معظم لدى المسلمين، ليحذر الناس كلهم من مشهد يوم عظيم تشترك فيه ظواهر المشهدين جميعها:
ــ فهو يوم الدك الأكبر الذي سيضرب أرجاء الأرض جميعها في لحظة واحدة وبشكل مستمر ومتتال دون توقف {كلا إذا دكت الأرض دكا دكا } سورة الفجر.
ــ وهو يوم تزلزل فيه الأرض زلزالا عظيما إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا{1} وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا{2} وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا{3}
ــ وهو يوم تحرك فيه مكونات الأرض السطحية منها والباطنية وتمزج ببعضها (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ{1} لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ{2} خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ{3} إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً{4} وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً{5} فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً{6})
4 ــ بين الله عز وجل عمليا وبشكل متنوع أنه قادر على فعل أعظم شيء يتخيله الإنسان وما لا يستطيع تخيله، فلقد نسف الجبل ودكه حتى عاد قاعا صفصفا، واقتلع جبلا آخر ورمى به في السماء وشده معلقا تحت السحاب ثم أنزله إلى الأرض، وعبر عن كل ذلك بكلمات قليلة جدا ليبين لنا منتهى السهولة في فعل ذلك،
5 ــ قد تكون هناك حكمة مخفية وراء إزالة الجبل من على سطح الأرض ودكه في طبقاتها بعد أن خلق كل شئ بقدر غير إظهار قدره سبحانه وجلاله فهو غني عنا وعن جميع ما خلق, فنحن نتلمس رحمة الله ولطفه وبركاته في كل فعل قدره على هذه الأرض, فقد ضربت الأرض بالنيازك لمدة طويلة وكان من نتيجة ذلك أن إكتسبت الأرض عنصر الحديد الذي يستحيل تشكله في كوكبنا مصداقا لقوله تعالى { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس } وقد تخامرني افتراضات كثيرة في ذلك منها:
ــ كأن يحدث توازنا واستقرارا في حركة الألواح التكتونية الحاملة للقارات والمحيطات، فبعض الجبال تمتد جذورها بعيدا تحت الصفائح التكتونية.
ــ أو غير مجرى المياه الجوفية في المنطقة بما يناسب الحياة بعدها.
ــ أو جعله كسدادة تمنع خروج الصهارة الأرضية في منطقة غير مناسبة.
ــ أو قد يكون ذلك الجبل محتويا من الكنوز ما لم يشأ الله تعالى أن يطلع عليها البشر لمدة من الزمان.
وإن الدراسة العلمية الميدانية لقادرة بإذن الله تعالى على الإجابة الشافية الصحيحة على هذه الإفتراضات.
6 ــ احتفظ الله تعالى بجبل الطور في منطقته[ التي تقع بين خطي عرض 30 و40 شمالا وخطي طول30 و40 شرقا ]فلم يدمره كسابقه، ومنحه سورة في القرآن تؤكد أهميته، وليبقى شاهدا على حدث تاريخي خطير يذكر الناس بضرورة أن يقدروا الله تعالى حق قدره وألا يختلقوا الأكاذيب و الإفتراضات الحائرة لتفسير حقيقة هذه الحياة.
7 ــ أورد الله تعالى هذه القصص في كتاب قال عنه { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ }فصلت42, وتفسير ذلك في الجلالين:[أنه ليس قبله كتاب يكذبه ولا بعده ]وهنا مربط الفرس وبيت القصيد:
أهيب بعلماء الجيولوجيا بفروعها في جمهورية مصر العربية خاصة والعالم الإسلامي عامة أن ينتدبوا فريقا منهم ليدرس ميدانيا جبل الطور بشكل دقيق وشامل، وأن يرسلوا بفريق آخر للبحث عن مكان الجبل الثاني المدمر، ثم يجروا مقارنة علمية بين الجبلين قد تكشف سر احتفاظ الله عز وجل بجبل الطور بينما دمر الآخر, والعلاقة البنيوية بينهما.
إني على يقين كامل أن نتائج هذا البحث العلمي والدراسة الجيوفيزيائية المعمقة للجبلين وبالوسائل التقنية الحديثة، ستكون معجزة تدوي أصداؤها في جنبات العالم كله مدة من الزمان, وستنحني كبريات مراكز البحث والجامعات احتراما و تبجيلا أمام الحقائق القرآنية المادية, وستخشع قلوب صلدة أمام مقدار القوة المستعملة في تدمير الجبل أو التي اقتلعته ورفعته في السماء, وستطيش نظريات داروين ومن هم على شاكلته من الكذبة والأفاكين فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً.
إعداد الأستاذ: عبد الله بن مسعود اسبانيا