[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة][ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] كلمة في سيرة الشيخ عبد السلام بوشحمة
بقلم ... محمد أحمد الوليد
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] هذه كلمةٌ مختصرةٌ، وترجمةٌ مقتضبةٌ، كتبتها في علم من أعلام مدينتنا بنغازي عرفانا بفضله، ومجازاة لشيء من صنعه، وإحياء لما كان عليه سلف أمتنا بذكر محاسن موتاهم، ومآثر من سبقوهم، وهي لا تزيد على لمحة ناظرٍ، وقدحة خاطرٍ، فإن وُفقت فالحمد لله على ذلك، وإن جانبت الرشاد فحسبي الاجتهاد الصادق دفاعا، وأعوذ بالله من متتبع للزلات، باحثٍ عن العثرات، هو حسبنا ونعم الوكيل.
نسبه
هو الشيخ البركة سليل الشرف ومعدن الكرم، زاكي الأرومة المربي الفاضل عبدالسلام بن محمد بن يوسف بو شحمة من ذرية الولي الشهير العلامة الفهامة الشيخ عبد السلام الأسمر الفيتوري الحسني نسبة ًللحسن بن علي بن أبي طالب –كرم الله وجهه-.
ولقد جمع المترجم له – رحمه الله - إلى شرف النسب شرفَ العمل، فلم يعتمد على علو نسبه كما فعل كثيرون، بل دلت سيرتُه العطرةُ على اتِّصاله بربه، ونبلِ خُلقِه، وصفاءِ سريرته، وكرم يده، وسماحة نفسه، فكان العملُ دليلا على طيب الأصل، وأوجد مطلب الشاعر:
لا تقل أصلي وفصلي يا فتى .. إنما الأصل والفصل ما قد حصل
ميلاده ونشأتهولد الشيخ - رحمه الله - ببنغازي سنة 1936م في عصر سيطرة الصليبيين على ليبيا في بيت علم وكرم فوالده الشيخ محمد بوشحمة اشتهر بإجابة الدعوة، وكمال الزهد، وهو من علماء بنغازي وأوليائها في وقته حفظ القرآن ودرس العلوم الشرعية بالزاوية الأسمرية وكانت أزهر ليبيا وقيروانها، وأجيز بمشيخة التربية الروحية للتصوف السني لنشره بشرق ليبيا، فدأب على الدعوة إلى المعتقدات الإسلامية الصحيحة، وجرد ما كان عالقا بجلباب متصوفة وقته من البدع والخرافات فاشتهر ذكره في بنغازي وما حولها، وقد عرفت صلابته في الحق، ومما يروى في سيرته ضرب الإيطاليين له إلى حد الإغماء لاعتزازه بدينه، ورفض لبس الشارة الإيطالية التي أجبر الناس على ارتدائها يومها، وظل معروفا بتمسكه بالشرع إلى أن انتقل إلى جوار ربه.
وفي هذه الأحوال نشأ صاحب الترجمة فتوفي أبوه وقد بلغ اثنتي عشرة سنةً فانتهل من والده ومن خلص أتباعه، وكذا من أمه التي كانت تبيع الصوف لتربيته معينَ التصوف السني بعد أن درس شيئا من العلوم الشرعية واللغوية على مشائخ وأساتذة من مصر وليبيا منهم العلامة الشيخ محمد السوداني، والشيخ محمد السوسي – رحمهم الله تعالى -
وبعد تعلمه الحر والتحاقه بالدراسة الحكومية تحصل على الشهادة الابتدائية وكانت في وقته ذات شأن، ليلتحق بها بعد اجتيازه اختبار التدريس باتفاق من امتحنوه مدرسا يعلم الصغار في وقت قل َّ فيه العلمُ، وانحسرت فيه المعرفةُ في بلادنا.
ولم يكتفِ الشيخ –رحمه الله – بالابتدائية في وقته بل واصل دراسَتَه - رغم تقدم سنه، وكثرة انشغاله بأسرته- حتى حصل على درجة اللسانس في علم اللغة العربية والدراسات الإسلامية من الجامعة الإسلامية بالبيضاء عام 1979م.
عمله بالتعليم والأوقاف
أعطى الشيخ الفاضل التعليمَ والوعظ على المنابر جهده ووقته، ولا يعلم في بنغازي خطيبا خطب في الناس داعيا إلى الله زهاء أربعين عاما دون انقطاعٍ عدا صاحب الترجمة، وكانت خطبه مؤثرة ؛ لاتصالها بحياة الناس وارتباطها بواقعهم، ومواكبتها أحداث العصر، وبعده عن التشدق والتقعر، والإغراق في الفلسفة، يضاف إلى ذلك هيبته عند الكلام مع وقوع محبته في قلب من رآه.
وكانت بعض خطبه من اختيار الناس يأتون إليه طالبين منه الحديث في موضوع من الموضوعات فلا يردهم بل يوافقهم ويظهر لهم الحاجة إليه، وهو يعلم -دون أن يظهر لهم- أنهم في خصومة أو خلاف، ويريدون من الطرف الآخر أن يستمع لرأي الشرع، فيكون لخطبته أثرها ويزول الإشكال، ويحل النزاع، والقصص في ذلك كثيرة لولا ضيق المقام لسردت كثيرا منها.
وكان – رحمه الله - متصلا بمن يستمعون خطبه من جيران المسجد ورواده فلا يكتف بسرد خطبته ثم يطير مع الطائرين كما يفعل جمهرة من الخطباء، بل يعمق صلاته بهم في الله فيحل مشاكلهم المتصلة بالدين كالميراث والديون ومشاكل الطلاق، ويشهد أفراحهم، ويواسيهم في أحزانهم.
وكان يعمل دائما على تثقيف نفسه في المسائل الفقهية، وقد تنوعت سبل تحصيله لهذا التثقيف، فتجده عاكفا على القراءة زمنا لا سيما كتب الشيخ الصادق الغرياني، وتجده راحلا إلى من يعتقد في علمه كا الشيخ مفتاح كركاره وهو من علماء بنغازي المغمورين في علم الحديث، وتجده جالسا أمام التلفاز يستمع إلى بعض العلماء الذين كان يظهر لهم المنزلة العالية، والمحبة الصادقة، يحفظ كلامهم، ويستشهد بآرائهم وأعلاهم عنده الشيخان الجليلان يوسف القرضاوي، ومحمد متولي الشعراوي .
وكان مشاركا في قوافل الوعظ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويواسي المصابين، وأذكر له هنا أنه كان من ضمن لجنة المواساة مع فضيلة الشيخ علي بوزغيبة، والأستاذ يوسف بوسنينة، والأستاذ إبراهيم البرغثي في مصاب مدينة بنغازي وقت حقن أبنائها بفيروس الأيدز فترقب دمعه، وحركته السريعة -رغم بدانته- بين المصابين يدعو هنا، ويُصِّبر هناك فأحدث مع إخوانه أثرا عظيما ندعو الله أن يجازيه عنه خير الجزاء.
كذا كان لا ينقطع عن دار الرعاية الاجتماعية للبنات يصبرهن على المصاب ويغرس فيهن حب الدين فتأترت به بعضهن وانقلب حالهن لأحسن حال بفضل الله تعالى بعد أن ملكهن اليأس وطبع على كثير منهن كره التاس وكن كثيرا ما يقدمن له من صنع أيديهن الهدايا عربون محبة وتكريم.
وعندما زوج الشيخ ابنه فرض عليه أن يحمل إليهن أطيب الحلوى والمشروبات ليشاركنه فرحه وسروره، ويؤيد وعظه بالعمل، وقوله بالفعل.
أما عمله بالتعليم فقد أخذ صورا متعددة فانخرط في سلك التدريس أولا في عام 1950م وعمره أربع عشرة سنة مدرسا للغة العربية، ثم أصبح ناظرا لسنوات طويلة، ثم تحول إلى وظيفة (الإخصائي الاجتماعي) بعد تلقيه لدورات متعددة في علم الاجتماع، إلى جانب تطوعه للتدريس في التعليم المسائي، ومشاركته الفاعلة في تأسيس جمعية الكفيف.
وفي أعماله كلها كتب الله له رضا زملائه، وإعجاب طلابه، ويروي كل من عمل معه كيف كان يتابع الصغيرة والكبيرة إبان توليه النظارة فتراه على سطح المدرسة حينا، وفي دور مياهها حينا آخر يعمل بنفسه في جبر ما انكسر، وإصلاح ما عطب، ويتابع أحوال الطلبة الفقراء يعرفهم بأسمائهم يشجعهم ويعينهم بما أجرى الله عليه، وكم من واقعة يرويها بعض طلبته اليوم ممن سهل الله أمورهم على يديه بعد أن ضاقت عليهم الدنيا وصدت أمامهم الأبواب.
وكان – رحمه الله - حريصا على تفقد أحوال الأساتذة الغرباء يمازحهم، ويعود مريضهم، ويعين محتاجهم، ويكتب للسؤال عن الراحل منهم، مما كان له الأثر الحسن في نفوسهم حتى مدحه أحدهم بعد أن عاده الشيخ في بيته بعد مرض ألمَّ به وهو الأستاذ عبد المجيد فرغلي محمد من بلاد مصر فقال قصيدة من خمسة وعشرين بيتا منها:
أخي الشهم الهمام "أبا شحيمة مثال النبل من كرم وهمة
عرفت بك السماحة في نقـاء وأنك فوق هام النبل قمة
قصدت زيارتي لتزيـل عـني وعن قلبي المعنَّى ما أهمَّه
ويقول أيضا:
ولولا طيب خلقك ما شعرنا .. بهذا منك من شمم وحشــمة
شددت بنا رباط الود شدا .. بحسن شمائل ملكتَ أزمّــِة
فلا عجب وخلقك نبعُ طُهر .. بلوغُك ما به أُوتيت علمــه
مكانك في رفاقك قد تسامى .. وقدرك فاق منزلة الأئمــة
نقي القلب تحمل كـل ود .. يلوح عليك كيف تريد كتمه
وجاء في ختامها:
فمرحى بالذي قد زار داري .. وجاء وصحبه فالنور عمـه
رفاقي مرحبا جئتم كراما .. ونوركمُ سخى فأزال ظلـمة
فليست ليبيا إلا كمصر بها .. يلقى غريب الـدار قومه
فخذها يا أخي للود ذكرى .. حَبَا "عبدُالمجيد" أبا شحيمة
صفاته مع أهله ومع الناسحدثني بعض أبنائه بعد أن سألته عن سلوك أبيهم في البيت، فقد يخفي الرجل عن الناس متظاهرا بحسن الخلق ما لا يخفي في بيته فقال ما معناه: كان الشيخ رحمه الله برا رحيما بنا وبأمنا يعاملها بما أمر به الإسلام فلايظلم ولا يتجبر، بل محبة من في البيت جميعه ظاهرة بينة، وكان لأمه المنزلة الكبرى من هذا الحب فلا يجلس إلا بجوارها يشاركها الطعام، ويمازحها بالكلام، ويعيد معها ما كان في غابر الأيام، ولا يدخل بشيء من متاع الدنيا إلا كانت أول من يراه ويلتذ به، وكانت لا تناديه إلا بأسماء التدليل وظل حاله على البر بها إلى يوم رحيلها، وكان يحمل صورتها في محفظته إلى أن انتقل إلى جوار ربه، وكلما نظر إليها تدمع عيناه حزنا على فراقها واستذكارا لأيامها.
وكان رحيما لينا مع من جاوره يجلون منزلته ويعرفون قدره ويعتقدون بركته فيقدمونه على أنفسهم في مسراتهم وأفراحهم بل تعدت محبته جيرانه إلى أقرباء وأصهار من جاوره فلا يؤخرون دعوته ولا يغفلون اسمه ذاك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وكان الشيخ رخمه الله في كل أحواله يتفقد الغائب ويعين المهموم ويلبي دعوة الداع ولو كان مريضا إرضاءً له، نزه نفسه عن المطامع، يشفق على الصغار، ويناديهم بأسماء التدليل، ويجيد فن الاستماع إليهم، ويشجعهم على حفظ القرآن والتعليم، وكان من مواقفه معهم أنه يذهب للمصرف كل عيد لفك النقود والمجيء بها جديدة ثم يوزعها عليهم، وكان هذا دأبه في كل عام ومن كبر منهم لا يقطع ما كان يعطيه، ويقول :ما زلتم في نظري صغارا وإن تزوجتم وأنجبتم.
وقد وهبه الله قلبا رقيقا وعينا سخية، وكم جاش بالبكاء واختفى صوته لما يجري لإخوانه في فلسطين والعراق والبوسنة ويكرر اللهم لا حول ولا قوة إلا بك توجعا وحزنا
لا تجد في كلامه لغوا ولا هذرا، تفهم من صمته ما تفهم من كلامه، وكان كما قيل :الصدق صديقه والحق رفيقه، لا يحب تأخير الأعمال، والتسويف في المقال، يكره سيرة الظالمين وأعوانهم ويراها هدرا للوقت، ومجلبة للمقت.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] تصوفه
اختلط عند جمهرة واسعة من الناس التصوف الأصيل بالتصوف الدخيل، فترى كثيرا منهم جرّ على تصوف السلف الصالح ما راج بين المبتدعة وأصحاب الأهواء الضالة من أخطاء في العقيدة، وشذوذ في الرأي، وانحراف عن الطريق السوي، وولوع بالكرامات، وخوارق العادات.
ولقد كان الشيخ –رحمه الله- ممن وهبه الله عقلا راجحا، وعقيدة سليمة، وعلما نافعا، اختلط التصوف السني بدمه ولحمه يشهد من رافقه من العدول أنه كان لا يفارق الأذكار الصحيحة المعنى، السليمة الفحوى يديم عليها بدأ من صلاة الفجر إلى آخر اليوم، وهو على نشأته الصوفية ووراثته للتصوف عن آبائه وأجداده بالسلسة الصحيحة، والإجازة الصريحة لم يفتح زاوية جده وأبيه وهي من أعرق زوايا بنغازي رغم إلحاح الكثيرين لأنه كان يعلم رواج المشعبذين والضالين المنتفعين بالدين، والمتمسحين بالقبور ويقول لا أجعلها وكرا لهؤلاء ومن أراد أن يذكر الله فليذكره في بيته أو في المسجد، ويردد أن أعلام التصوف كالشيخ عبد السلام الأسمر يبرأ إلى الله مما يفعله جمهرة أتباعه، فهو من أهل العلم والعمل، وهؤلاء شاع فيهم الجهل، وقل فيهم العمل.
كان التصوف عنده الزهد مما في أيد الناس والعمل بشرع الله، ويوصي من أراد أن يسلك سبيل القوم بتقوى الله والصدق في العمل، والبعد عن الادعاء، ولا يرد من يريد أن يلقنه الذكر، لا يدعي دوام الرؤيا بل كان يقول:أنا قليل الرؤيا، وهذه إشارة إلى صدقه وتدينه وأن أحلام الشيطان ووساوس النفس عنه بمعزل، وكان ما رأه يقع فضلا من الله ونعمة، ولقد شرفني الله بمجالسته، وأكرمني بزيارته لي قبيل وفاته، وأجازني إجازة عامة وخاصة لم يعط مثلها غيري فيما أعلمُ، وأكاد أجزمُ، وشهد على إمضائه الشهود العدولُ، فالحمد لله على ذلك، ورحم الله ابن عاشر في قوله:
يصحب شيخا عارفَ المسالك يقيه في طريقه المهالك
يذكــره اللـــهَ إذا رأهُ ويُوصِل العبدَ إلى مولاهُ
ولقد توافرت فيه رحمه الله صفات التربية الأربع من العلم بالفرائض، والعمل بالشرع، ومعرفة طرق تزكية النفس، وتلقي إجازة التلقين كابرا عن كابر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مع هذا كله لايبوح بما عنده تواضعا ,و خوفا على المنكر من الوقوع في المحذور فيضر نفسه من حيث لا يعلم، فلحوم العلماء والأولياء كما يقول ابن عساكر رحمه الله مسمومة، وسنة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة.
وفاتهكانت وفاته مصيبة أهله وفجيعة أصحابه، ووجيعة من عرفه فبعد مرض أصاب رجله أقعده عن الانتقال، وحبسه عن الترحال حمله أبناؤه لتونس لتطبيبه، وعاد وقد تحسنت أحواله، واستقرت أوضاعه ثم فاجأته رجله الأخرى بألم شديد بعد أن تورمت وشرعت في النزف فهبَّ أبناؤه للعودة به مرة أخرى، وعند تحرك الطائرة وقراءته دعاء السفر وكان دعاء الرحيل عن الدنيا "اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل.."اشتد نزفه، وتدهورت صحته فتوقفت الطائرة ونقل للمستشفى على عجل، وهو لا يفتأ رافعا صوته بالذكر ونطق الشهادتين ومازال ذاكرا ربه معددا نعمه وفضله في غرفة العناية حتى فاضت روحه ليتوسد التراب الذي منه خلق في ليلة النصف من شعبان سنة سبع وعشرين وأربعمائة وألف وهي ليلة ما فتيء لسانه يدعو إلى صيامها وقيامها، وقد حضر جنازته جماعة من العلماء والفضلاء، وشهد له الناس بحسن الديانة وطيب المعشر، وسلامة الصدر، وكانت شهادات عجيبة نطق بها من صحبوه، وصدَّق عليها آخر من رأوه من الأطباء الذين شدهم رباطة جأشه أمام الموت وتسليم روحه لبارئها بشهادة التوحيد . أسكنه الله فسيح جنانه، وجمعنا به في حوض جده صلى الله عليه وسلم.
وكتبه الفقير إلى عفو ربه محمد أحمد الوليد بالإسكندرية سنة تسع وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية المباركة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]