وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ
[ سورة البقـرة : ٩٥ ]
إنهم لن يتمنوا الموت أبدا بل يخافوه. .
والله تبارك وتعالى حين أنزل هذه الآية. .
وضع قضية الإيمان كله في يد اليهود. .
بحيث يستطيعون إن أرادوا أن يشككوا في هذا الدين. . كيف؟
ألم يكن من الممكن عندما نزلت هذه الآية
أن يأتي عدد من اليهود ويقولوا ليتنا نموت. .
نحن نتمنى الموت يا محمد. فادع لنا ربك يميتنا. .
ألم يكن من الممكن أن يقولوا هذا؟
ولو نفاقا. . وَلو رياءً ليهدموا هذا الدين. .
ولكن حتى هذه لم يقولوها ولم تخطر على بالهم. .
أنظر إلى الإعجاز القرآني في قوله سبحانه: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ} .
لقد حكم الله سبحانه حكما نهائيا في أمر إختياري لعدو يعادي الإسلام. .
وقال إن هذا العدو وهم اليهود لن يتمنوا الموت. .
وكان من الممكن أن يفطنوا لهذا التحدي. .
ويقولوا بل نحن نتمنى الموت ونطلبه من الله. .
ولكن حتى هذه لم تخطر على بالهم؛
لأن الله تبارك وتعالى إذا حكم في أمر اختياري
فهو يسلب من أعداء الدين تلك الخواطر
التي يمكن أن يستخدموها في هدم الدين. .
فلا تخطر على بالهم أبدا
مثلما تحداهم الله سبحانه من قبل في قوله تعالى:
{سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} [البقرة: 142]
ولقد نزلت هذه الآية الكريمة قبل أن يقولوا. .
بدليل إستخدام حرف السين في قوله: «سيقولُ» . .
ووصفهم الله جل جلاله بالسفهاء. .
ومع ذلك فقد قالوا. .
ولو أن عقولهم تنبهت لسكتوا ولم يقولوا شيئا. .
وكان في ذلك تحدٍ للقرآن الكريم. .
كانوا سيقولون لقد قال الله سبحانه وتعالى:
{سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس} . .
ولكن أحدا لم يقل شيئا فأين هم هؤلاء السفهاء ولماذا لم يقولوا؟
وكان هذا يعتبر تحديا للقرآن الكريم في أمر يملكون فيه حرية الاختيار. . و
لكن لأن الله هو القائل والله هو الفاعل. .
لم يخطر ذلك على بالهم أبدا، وقالوا بالفعل.
في الآية الكريمة التي نحن بصددها. .
تحداهم القرآن أن يتمنوا الموت ولم يتمنوه. .
وكان الكلام المنطقي مادامت الدار الآخرة خالصة لهم. .
والله تحداهم أن يتمنوا الموت إن كانوا صادقين لتمنوه. .
ليذهبوا إلى نعيم أبدي. .
ولكن الحق حكم مسبقا أن ذلك لن يحدث منهم. . لماذا؟
لأنهم كاذبون ويعلمون أنهم كاذبون. .
لذلك فهم يهربون من الموت ولا يتمنونه.
انظروا مثلا إلى العشرة المبشرين بالجنة. .
عمار بن ياسر في الحرب في حنين. .
كان ينشد وهو يستشهد الآن ألقى الأحبة محمدا وصحبه. .
كان سعيداً لأنه أصيب وكان يعرف وهو يستشهد
أنه ذاهب إلى الجنة عند محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصحابته. .
هكذا تكون الثقة في الجزاء والبشرى بالجنة. .
وعبد الله بن رواحة كان يحارب وهو ينشد ويقول:
يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وبارد وشرابها
والإمام علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يدخل معركة حنين
ويرتدي غلالة ليس لها دروع. .
لا ترد سهما ولا طعنة رمح. .
حتى إن إبنه الحسن يقول له:
يا أبي ليست هذه لباس حرب. .
فيرد علي كرم الله وجهه:
يا بني إن أباك لا يبالي أسقط على الموت أم سقط الموت عليه. .
وسيدنا حذيفة بن اليمان ينشد وهو يحتضر. .
حبيب جاء على ناقة لا ربح من ندم. .
إذن الذين يثقون بآخرتهم يحبون الموت.
وفي غزوة بدر سأل أحد الصحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. .
يا رسول الله أليس بيني وبين الجنة إلا أن أقاتل هؤلاء فيقتلوني. .
فيجيب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نعم. .
وكان في يد الصحابي تمرات يمضغها. .
فيستبطئ أن يبقى بعيدا عن الجنة حتى يأكل التمرات فيلقيها من يده
ويدخل المعركة ويستشهد.
هؤلاء هم الذين يثقون بما عند الله في الآخرة. .
ولكن اليهود عندما تحداهم القرآن الكريم بقوله لهم:
{فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . . سكنوا ولم يجيبوا. .
ولو تمنوا الموت لانقطع نفس الواحد منهم وهو يبلع ريقه فماتوا جميعا. .
قد يقول قائل وهل التمني باللسان؟ ربما تمنوا بالقلب. .
نقول ما هو التمني؟
نقول إن التمني هو أن تقول لشيء محبوب عندك ليته يحدث.
فهو قول. . وهب أنه عمل قلبي فلو أنهم تمنوا بقلوبهم
لأطلع الله عليها وأماتهم في الحال. .
ولكن مادام الحق تبارك وتعالى قال: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} . .
فهم لن يتمنوه سواء كان باللسان أو بالقلب. .
لأن الإدعاء منهم بأن لهم الجنة عند الله خالصة
أشبه بقولهم الذي يرويه لنا القرآن في قوله سبحانه:
{وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 80]
وقوله تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} . .
أي أن أعمالهم السيئة تجعلهم يخافون الموت. .
أما صاحب الأعمال الصالحة فهو يسعد بالموت. .
ولذلك نسمع أن فلانا حين مات كان وجهه أشبه بالبدر لأن عمله صالح. .
فساعة الموت يعرف فيها الإنسان يقينا أنه ميت. .
فالإنسان إذا مرض يأمل في الشفاء ويستبعد الموت. .
ولكن ساعة الغرغرة يتأكد الإنسان أنه ميت
ويستعرض حياته في شريط عاجل. .
فإن كان عمله صالحا تنبسط أساريره ويفرح
لأنه سينعم في الآخرة نعيما خالدا. .
لأنه في هذه الساعة والروح تغادر الجسد
يعرف الإنسان مصيره إما إلى الجنة وإما إلى النار. .
وتتسلمه إما ملائكة الرحمة وإما ملائكة العذاب. .
فالذي أطاع الله يستبشر بملائكة الرحمة. .
والذي عصى وفعل ما يغضب الله يستعرض شريط أعماله. .
فيجده شريط سوء وهو مقبل على الله. .
وليست هناك فرصة للتوبة أو لتغيير أعماله. .
عندما يرى مصيره إلى النار تنقبض أساريره
وتقبض روحه على هذه الهيئة. .
فيقال فلان مات وهو أسود الوجه منقبض الأسارير.
إذن فالذي أساء في دنياه لا يتمنى الموت أبدا. .
أما صاحب العمل الصالح فإنه يستبشر بلقاء الله.
ولكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نهى عن تمني الموت فقال:
«لاَ يَتَمَنَّينَّ أحدُكم الموتَ ولا يدعو به من قَبلِ أن يَأْتِيَه إلا أن يكون قد وَثِقَ بعملِه»
نقول إن تمني الموت المنهي عنه
هو تمني اليأس وتمني الاحتجاج على المصائب. .
يعني يتمنى الموت لأنه لا يستطيع أن يتحمل قدر الله في مصيبة حدثت له. .
أو يتمناه احتجاجا على أقدار الله في حياته. .
هذا هو تمني الموت المنهي عنه. .
أما صاحب العمل الصالح فمستحب له أن يتمنى لقاء الله. .
وإقرأ قوله تعالى في آخر سورة يوسف:
{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث فَاطِرَ السماوات والأرض أَنتَ وَلِيِّي فِي الدنيا والآخرة تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} [يوسف: 101]
وقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
أي لا تتمنوا الموت جزعا مما يصيبكم من قدر الله. .
ولكن إصبروا على قدر الله. .
وقوله تعالى: {والله عَلِيمٌ بالظالمين} . .
لأن الله عليم بظلمهم ومعصيتهم. .
هذا الظلم والمعصية هو الذي يجعلهم يخافون الموت ولا يتمنونه.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]