التفسير المطول - سورة النساء 004 - الدرس(59-69): تفسير الآيات 131-134 ، العدل والظلم
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2003-05-09

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
بسم الله الرحمن الرحيم
 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا بما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الله جلّ جلاله يخاطب الناس جميعاً بأصول الدين ويخاطب الذين آمنوا بفروع الدين:
 أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس التاسع والخمسين من دروس سورة النساء ومع الآية الخامسة والثلاثين بعد المئة، وهي قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَو عَلَى أَنفُسِكُمْ أَو الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَو فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَو تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾
 أيها الأخوة الكرام، كما هو معلوم لديكم أن كل آية تتصدر بقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا، معنى ذلك أنه بعقدك الإيماني مع الله ينبغي أن تأتمر بما أمر، وأن تنتهي عما عنه نهى وزجر، ذلك لأن الله جل جلاله يخاطب الناس جميعاً بأصول الدين:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ﴾
[ سورة البقرة: 21]
 ويخاطب الذين آمنوا بفروع الدين.
من لوازم الإيمان أن تؤمن بالله وأن تؤمن بما أراده منك :
 لأنك آمنت بالله خالقاً ومربياً ومسيراً، لأنك آمنت بالله موجوداً وواحداً وكاملاً، لأنك آمنت بأسمائه الحسنى وصفاته الفضلى، لأنك آمنت بكل ذلك، آمنت به خبيراً وعليماً وحكيماً ورحيماً وعدلاً، لأنك آمنت به الإيمان الصحيح ينبغي أن تنصاع لأمره وأن تقبل على معرفة مراده منك، هناك من يؤمن بالله ولا يبحث عن مراد الله منه هذا إيمان لا يقدم ولا يؤخر.
 من لوازم الإيمان أن تؤمن بالله وأن تؤمن بما أراده منك، تؤمن بالله عن طريق الكون وإعمال العقل، ثم تتعرف إلى مراده منك عن طريق الرسول، فالإيمان بالله ورسوله متلازمان، الإيمان بالله أي آمنت بوجوده وكماله ووحدانيته، والإيمان برسوله أي آمنت بمراد الله منك، لماذا خلقك؟ ماذا ينبغي أن تعمل؟
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ ﴾
 قوّامين جمع قوّام، وقوّام صيغة مبالغة من قائم:
﴿ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ﴾
 الإنسان مثلاً لو كذب مرة واحدة يقال له: كاذب، أما إذا كان الكذب ديدنه يقال له: كذاب، صيغة مبالغة، فصيغة المبالغة تعني الاستمرار، فبين أن يقول الله: كن قائماً بالقسط، أي قد تكون مرة واحدة، أما: كن قواماً، أي دائماً وأبداً، كن قواماً بالقسط، والقسط هو العدل.
الفرق بين القسط والعدل :
 لكن ما الفرق بين القسط والعدل؟ طبعاً قسط يقسط، ظلم يظلم:
﴿ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً ﴾
[ سورة الجن: 15]
 يروى أن أحدهم دخل على أمير وقال: أنت قاسط عادل، فقال هذا الأمير لجلسائه: أتدرون ماذا قال لي؟ قالوا: مدحك، قال: لا، قال لي: أنت ظالم كافر، قالوا: وكيف؟ قال:
﴿ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً ﴾
[ سورة الجن: 15]
﴿ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾
[ سورة الأنعام: 1]
 فقسط بمعنى ظلم، أقسط: بمعنى رفع الظلم، فلذلك العدل أن توزع حقوق الناس ابتداء فأنت عادل، أما إذا قلنا: أنت مقسط أي رددت الحقوق لأصحابها، رفعت الجور، رفعت الظلم، طبعاً العدل درجة ابتدائية، أنت حينما وزعت أموالك وزعتها وفق منهج الله بين أولادك فأنت عادل، لكن لو حابيت واحداً وظلمت الآخر، ثم جاء من يصحح لك القسمة فهذا الثاني يقال له: مقسط، أي رفع الجور عن بقي الأخوة، إذاً الله عز وجل يأمرنا أن نرفع الظلم والحيف، والحقيقة لا يمكن أن ينتصر أناس ولو آمنوا بربهم إذا كانوا ظلاماً، والدليل:
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾
[ سورة الأنعام: 81]
 قال:
﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ ﴾
[ سورة الأنعام: 82]
 هناك من يؤمن ويلبس إيمانه بالظلم، لذلك: إن الله ينصر الأمة العادلة الكافرة على الأمة المسلمة الظالمة.
الظلم أحد أكبر أسباب انهيار الأمة :
 الظلم أيها الأخوة أحد أكبر أسباب انهيار الأمة، وفي الحديث عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:
((أَنَّ قُرَيْشاً أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَأيْمُ اللَّهِ لَو أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ))
[متفق عليه عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا]
 هذا البرمكي الذي كان في أعلى مقام في عهد هارون الرشيد أودع في السجن فجأة، فزاره زائر قال له: ما هذا؟ قال له: لعلها دعوة مظلوم أصابتني.
 الظلم أيها الأخوة ظلمات يوم القيامة، إن بعض العلماء يقول: الدنيا ـ لا أقول الآخرة ـ تصلح بالكفر والعدل، ولا تصلح بالإيمان والظلم، ارفع أي شعار وسمِّ نفسك ما تشاء، قل: أنا مؤمن كبير، أنا مسلم، فإذا كنت ظالماً فهذا الانتماء لا قيمة له إطلاقاً، لذلك لما سيدنا ابن رواحة الذي كلفه النبي أن يقيّم تمر خيبر، وأهل خيبر من اليهود، وقد أغروه بحلي نسائهم كرشوة ليخفض التقييم، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَال:
((أَفَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْبَرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَرَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كَانُوا وَجَعَلَهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، فَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فَخَرَصَهَا عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ أَنْتُمْ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَيَّ قَتَلْتُمْ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَكَذَبْتُمْ عَلَى اللَّهِ وَلَيْسَ يَحْمِلُنِي بُغْضِي إِيَّاكُمْ عَلَى أَنْ أَحِيفَ عَلَيْكُمْ قَدْ خَرَصْتُ عِشْرِينَ أَلْفَ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ فَإِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَلِي، فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ قَدْ أَخَذْنَا فَاخْرُجُوا عَنَّا))
[أحمد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ]
 الآن دققوا ماذا قالوا: قالوا:
((بِهَذَا قَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ))
حينما يظلم بعضنا بعضاً لا نستحق نصر الله عز وجل :
 اسمعوا هذه الكلمة أيها الأخوة، والله، ثم والله، ثم والله لو فهم أصحاب رسول الله الإسلام كما نفهمه نحن الآن والله ما خرج الإسلام من مكة المكرمة، كيف وصل إلى الصين شرقاً وإلى إسبانيا غرباً؟ كيف وصل؟ بالعدل، فحينما يظلم بعضنا بعضاً لا نستحق نصر الله عز وجل، والآيات واضحة كالشمس:
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾
[ سورة الأنعام:81-82]
 يروي التاريخ أيها الأخوة أن قاضياً من كبار القضاة في بعض العهود الأموية اتصل بالخليفة طالباً منه أن يعفيه من منصبه، فلما سأله عن السبب، قال له: والله طُرق بابي البارحة فإذا بطبق من الرطب، وأنا معروف عند أهل البلدة أنني أحب الرطب في بواكيره، سألت الغلام: من جاء بهذا الطبق؟ قال: رجل، قال: صفه لي؟ قال: هو كيت وكيت، أي هكذا أوصافه، فعلم أنه أحد المتخاصمين عنده فردّ الطبق، في اليوم التالي يقول هذا القاضي: واللهِ لما دخل علي المتخاصمان تمنيت أن يكون الحق مع الذي قدم الطبق، مع أني لم آخذه، فكيف لو أخذته؟ هذا العدل، حتى التاريخ الحديث يروي أن بلداً كبيراً جداً في أوربا عقب الحرب العالمية الثانية، وقد دمر كل شيء، وقف رئيس الوزارة يسأل وزيراً وزيراً، سأل وزير الصناعة: كيف الحال عندك يا فلان؟ قال له: المعامل كلها محروقة، سأل وزير الزراعة؟ قال له: الحقول كلها محروقة، سأل وزير الخزانة قال له: والله الخزانة فارغة، سأل جميع الوزراء، فلما وصل إلى وزير العدل قال له: كيف العدل عندك يا فلان؟ قال له: العدل بخير، فقال: كلنا إذاً بخير.
 قيمة العدل كبيرة، في العالم الإسلامي ظلم لا يعلمه إلا الله، ظلم من أب لأولاده، من زوج لزوجته، من صاحب عمل لعماله، الظلم والتفرقة من أسباب هلاك الأمم، لذلك عدل ساعة خير من عبادة ستين عاماً، ويروى في الكتب ـ وللمغزى فقط ـ أن حجراً ضج بالشكوى إلى الله، قال: يا رب عبدتك خمسين عاماً وتضعني في أس كنيف؟ فقيل: تأدب يا حجر إذ لم أجعلك في مجلس قاض ظالم.
أكبر إنجاز للمؤمن أن ينام مساء دون أن يظلم أحداً :
 حينما نعدل نستحق النصر، وحينما نظلم لا نستحق نصر الله عز وجل، ماذا قال اليهود لعبد الله بن أبي رواحة؟ قال: بِهَذَا قَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ. عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَال:
((أَنْحَلَنِي أَبِي نُحْلاً فَقَالَتْ لَهُ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشْهِدْهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشْهَدَهُ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي النُّعْمَانَ نُحْلاً وَإِنَّ عَمْرَةَ سَأَلَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ: فَقَالَ: أَلَكَ وَلَدٌ سِوَاهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَكُلَّهُمْ أَعْطَيْتَ مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَ النُّعْمَانَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَقَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ الْمُحَدِّثِينَ: هَذَا جَوْرٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا تَلْجِئَةٌ فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا))
[ متفق عليه عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ]
 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ وَالْمَرْأَةُ بِطَاعَةِ اللَّهِ سِتِّينَ سَنَةً ثُمَّ يَحْضُرُهُمَا الْمَوْتُ فَيُضَارَّانِ فِي الْوَصِيَّةِ فَتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ))
[ الترمذي، أبو داود، ابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
 أين العدل في حياة المسلمين؟ كم من أخ حرم أخواته البنات من الإرث؟ وكم من أب حابى أولاد زوجته الثانية وظلم أولاد زوجته الأولى؟ كم من صاحب عمل ما أعطى العامل ما يستحق؟ لأن العامل فقير، ومضطر إلى أن يعمل، أعطاه جزءاً يسيراً من حقه، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
((أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ))
[ ابن ماجه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ]
 أخواننا الكرام: أكبر إنجاز لك أيها المؤمن أن تنام مساء دون أن تظلم أحداً، وفي الحديث عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذاً إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ))
[متفق عليه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا]
 اتقوا دعوة المظلوم ولو كان كافراً، الله عز وجل يستجيب للمظلوم لا بأهليته للاستجابة ولكن باسم الله العدل، ويستجيب للمضطر ولو لم يكن أهلاً للإجابة، لا بأهليته للإجابة ولكن باسم الرحيم.
الله عز وجل عدل والعدل يأبى الظلم :
 أيها الأخوان الكرام: ينبغي أن تعدوا للمليار قبل أن تظلموا نملة، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعاً فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ قَالَ: فَقَالَ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ لَا أَنْتِ أَطْعَمْتِهَا وَلَا سَقَيْتِهَا حِينَ حَبَسْتِيهَا وَلَا أَنْتِ أَرْسَلْتِهَا فَأَكَلَتْ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ))
[متفق عليه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا]
 كم من بيت مسلم فيه ظلم؟ زوجة الابن قد تكون مظلومة وكلهم يعلو عليها ويسحقونها، وقد تكون البنت مظلومة مع أخوتها الذكور لا يعطونها شيئاً، حينما يشيع الظلم في حياة المسلمين، في بيوتهم، في أعمالهم، في بيعهم وشرائهم، لا نستحق جميعاً نصر الله عز وجل، إن الله ينصر الأمة العادلة الكافرة على الأمة المسلمة الظالمة، ترون ماذا يفعل بعض المسلمين في بعضهم قبل أن ينكشفوا، هذا نموذج، الله عز وجل عدل، والعدل يأبى الظلم، وعد للمليار قبل أن تظلم نملة، دخلت امرأة النار في هرة حبستها لا هي أطلقتها، ولا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، فإذا كانت الهرة مظلومة يستحق من ظلمها نار جهنم، فكيف بما فوق الهرة؟ وكيف بأمم وشعوب تظلم؟ تُحتَل أرضها وتُنهَب ثرواتها، ويُسفَك دمها رخيصاً بلا سبب:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ﴾
 ما قال: كونوا قائمين بالقسط، قوّام صيغة مبالغة، فعل مستمر طوال حياتك، لا تنطق إلا بالحق، ولا تأكل حق أحد ولو كان ضعيفاًَ، ولو كنت أقوى منه، ولو كان ضعيف الحجة وكنت أفصح منه، الله وليه، يا رب كم عصيتك فلم تعاقبني، فوقع في قلبه: أن يا عبدي قد عاقبتك ولم تدر، هذه الآلام العامة، هذا الظلم الذي يواجهه المسلمون من دول عظمى سببه أننا نظلم بعضنا بعضاً طبعاً، أموال طائلة تودع في بنوك الكفار ثم تجمد وتصادر والمسلمون في أمس الحاجة إليها، وإذا فتحنا ملف الظلم لا ينتهي الدرس بنا إلى الفجر، الظلم ظلمات يوم القيامة، حاول ألا تظلم أحداً ولو بكلمة، ولو بعبوس، ولو بإعراض، لأن الله سيحاسب، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام وصل في توجيهه إلى أنك إذا قبلت ابنك الأول ولم تقبل الثاني فقد ظلمت، إلى هنا وصل العدل، هلا سويت بينهما في العطية.
على المؤمن أن يشهد بالحق من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل :
 قال:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَو عَلَى أَنفُسِكُمْ ﴾
 الآن ينبغي أن تشهد لله، أن تشهد الحقيقة، أي أن تقول الحقيقة لا من أجل زيد أو عبيد أبداً، من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل:
﴿ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ﴾
[ سورة البقرة: 282]
 أنت مكلف أن تشهد الحقيقة لماذا؟ فلان رجاني أن أشهد له، لا، لا من أجل فلان ولا من أجل علان، ولا ليرضى زيد ولا ليغضب عبيد، ينبغي أن تشهد لله أداء لحق الله عز وجل ولا تأبى أن تشهد، أحياناً مثلاً يركب الإنسان بمركبة والسائق ظُلِم ولم يرتكب أي خطأ، وصار هناك دهس، لا يتنازل هذا الراكب أن يقتطع من يومه ساعة أو ساعتين ليدلي بشهادة أمام قاضي السير، ارتكب أكبر معصية، أنا كنت راكباً والطفل قفز إلى أمام المركبة، والمركبة تسير ببطء شديد، كان هناك ازدحام، هذه الشهادة لا تقدر بثمن:
﴿ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ﴾
[ سورة البقرة: 282]
 اشهد ولا تأخذك في الله لومة لائم، ما قيمة حياتك من دون عدل؟ الكفار حينما عدلوا استحقوا النصر، والمسلمون حينما ظلموا استحقوا ألا ينتصروا.
إن الله ينصر الأمة العادلة الكافرة على الأمة المسلمة الظالمة :
 قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ﴾
 القسط العدل، ومعنى القسط أيضاً أن ترفع الظلم، عدل من الدرجة الثانية، أن تعطي بالعدل فهذا عدل، أما أن تكون مقسطاً أن ترفع الجور:
﴿ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَو إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾
[ سورة البقرة: 182]
 يروى أن سيدنا علي كرم الله وجهه اشتكى عليه يهودي لسيدنا عمر، وكان هذا الصحابي الجليل جالساً إلى جنب عمر، دخل اليهودي واشتكى على الإمام علي، فقال عمر: قم يا أبا الحسن فقف إلى جنب الرجل، فتغير لون سيدنا علي، بعد أن حكم بالعدل وصرف اليهودي، قال له: يا أبا الحسن أوجدت علي؟ قال له: نعم، ماذا فعلت؟ أوقفتك إلى جانبه، قال: لمَ قلت لي: يا أبا الحسن، ولم تقل لي يا علي، لقد ميزتني عليه؟ وصلنا إلى هذا المستوى، سيدنا علي يُسرَق درعه ويجده عند يهودي، ويرفع القضية إلى أحد القضاة، قال له: يا إمام ـ كان أمير المؤمنين ـ قال له: من يشهد لك؟ قال له: ابني،قال: ابنك لا تقبل شهادته، وبقي الدرع مع اليهودي، فلما رأى اليهودي هذا أعلن إسلامه، أمير مؤمنين يرفع قضيته أمام قاض، ويأتي بشاهد هو ابنه، وترفض شهادته، هكذا العدل، شخص من الصحابة في أثناء الهجرة ألقي القبض عليه، وقال للذين قبضوا عليه:عهداً لله إن أطلقتموني لن أحاربكم، فأطلقوه وصدقوه، فلما وصل إلى النبي، وأخبر النبي بما كان فرح به النبي، بعد حين كانت غزوة فانضم إليها، قال له: ارجع يا فلان، ألم تعاهدهم ألا تقاتلهم، هذا الإسلام، الإسلام لا كما يتوهم الناس بأداء شعائر أداء أجوف، أعود وأقول: والله، ثم والله، ثم والله، لو فهم الصحابة الكرام الإسلام كما نفهمه نحن ما خرج الإسلام من مكة المكرمة، نفهمه نحن مظاهر، نحج ونضع الزينة، وصار الحاج فلاناً، التعامل اليومي لا يوجد به دقة، الظلم شائع بين المسلمين، على مستوى العلاقات الشخصية، على مستوى الأعمال، على مستوى التجارة، يوجد أحياناً غش، مرة قال لي شخص كلمة عابرة، قال لي: اشتريت مئتي بيضة فاسدة بعناها بسرعة في سوق الجمعة، حينما يظلم بعضنا بعضاً نسقط من عين الله جميعاً ولا نستحق أن ينصرنا الله عز وجل، أعود وأقول: إن الله ينصر الأمة العادلة الكافرة على الأمة المسلمة الظالمة.
إذا لم يتمثل المسلم قيم الإسلام فلا قيمة لإسلامه :
 قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ﴾
 صيغة مبالغة أي القسط ينبغي أن يكون ديدنكم، سلوك مستمر:
﴿ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ﴾
 اشهد الحقيقة، الأبلغ من ذلك:
﴿ وَلَو عَلَى أَنفُسِكُمْ ﴾
 أي أنت المخطئ، ولا يوجد شاهد عليك أبداً، تقول: أنا فعلت كذا، هذا هو الدين، المسلم إذا لم يتمثل قيم الإسلام ما قيمة إسلامه؟ ماذا قال سيدنا جعفر للنجاشي؟ قال له:
((أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْماً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ وَنُسِيئُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولاً مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ وَأَمَرَ بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ وَنَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ قَالَ: فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ، فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئاً وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا فَعَذَّبُونَا فَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا لِيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنْ الْخَبَائِثِ وَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَشَقُّوا عَلَيْنَا وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ))
[أحمد عن أم سلمة]
الإسلام فيه عدل لكن المسلمين ظلموا فلما ظلموا لم يستحقوا أن ينصروا :
 الإسلام قيم أخلاقية، والله حدثني أخ قال لي: أعمل عند قريبي الغني ـ قصة قديمة جداً ـ والله يعطيني في الشهر ألفي ليرة، وينفق في اليوم الواحد عشرة آلاف، وأنا موكل بتأمين الحاجات للمنزل، أقل مما يستحق بكثير، يستغله، مادام فقيراً يستغله، إنسان يضع لابنه مدرسين بمليون ليرة وعنده موظف بسيط يتيم لا أحد له، يسأله أن يخرج من المحل قبل ساعة ليلتحق بمدرسة ليلية ليأخذ كفاءة فلا يوافق، يبقيه جاهلاً حتى ينتفع منه ويستغله.
 حينما يبلغ الظلم مستوى كبيراً جداً نستحق جميعاً غضب الله عز وجل، أي الحمد لله الذي أخرجنا من ظلم الحكام ـ كما قال الصحابة الكرام ـ إلى عدل الإسلام، الإسلام فيه عدل، لكن المسلمين ظلموا، فلما ظلموا لم يستحقوا أن ينصروا، طبعاً:
﴿ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ﴾
 لا تشهد لا لزيد ولا لعبيد، ولا تعبأ بغضب فلان ولا علان، ينبغي أن تشهد لله إحقاقاً للحق، وإبطالاً للباطل.
 أيها الأخوة الكرام: كم من شهادة صدق تغير الحكم وتنصف وتزيل الظلم بشهادة؟
﴿ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَو عَلَى أَنفُسِكُمْ ﴾
 أحدهم تزوج امرأة دون أن يعلم زوجته، هي شعرت أنه يوجد امرأة أخرى بحياته، ثم تهيبت أن تفاتحه بالأمر، كان للزوج في القديم مكانة كبيرة، الآن لا يوجد مكانة أبداً، وتوفي الزوج، فأرسلت هذه الزوجة إلى ضرتها نصيبها من الإرث، فكان جواب الضرة أنه طلقني قبل أيام من وفاته، وليس لي عندكم شيء، هكذا الإسلام، حينما نعدل نعيش في جنة، هذا الذي يعطي هذا العامل هذا الأجر أيكفيه طوال الشهر، وهو ينفق بغير حساب، عرس ابنه بخمسة وثمانين مليوناً، ولا يعطيه إلا النذر اليسير لا يكفيه، يوجد قوة، المال قوة، والمنصب قوة.
حاشا لله أن نعدل فيما بيننا ثم يأتي من يأخذ أموالنا :
 أيها الأخوة الكرام، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:
((أَنَّ قُرَيْشاً أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وأيم اللَّهِ لَو أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ))
[ متفق عليه عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا]
 يروي التاريخ أن أحد ملوك الغساسنة أسلم، اسمه جبلة بن الأيهم، جاء عمرَ مسلماً، طبعاً سيدنا عمر رحب به، النبي طلب النخبة، وليس خطأ أن تطلب النخبة، رحب به، في أثناء طوافه حول البيت بدوي من فزارة داس طرف ردائه، فانخلع رداء الملك من كتفه، فالتفت إلى هذا الأعرابي الفقير، وضربه ضربة هشمت أنفه، هذا الأعرابي الفقير من فزارة ليس له إلا سيدنا عمر ذهب يشكو جبلة، صاغ شاعر معاصر الحوار شعراً، سيدنا عمر استدعاه قال له: أصحيح ما ادعى هذا الفزاري الجريح، قال له: صحيح لست ممن يكتم شيئاً، أنا أدبت الفتى أدركت حقي بيدي، قال له: أرضي الفتى لا بد من إرضائه، مازال ظفرك عالقاً بدمائه، أو يهشمن الآن أنفك ـ أيها الملك ـ وتنال ما فعلته كفك، قال له: عجيب كيف ذاك؟ هو سوقة وأنا عرش وتاج، كيف ترضى أن يخر النجم أرضاً، قال له: نزوات الجاهلية ورياح العنجهية قد دفناها، أقمنا فوقها صرحاً جديداً، وتساوى الناس أحراراً لدينا وعبيداً، فقال له جبلة: كان وهماً ما جرى في خلدي أنني عندك أقوى وأعز، أنا مرتد إذا أكرهتني، قال له: عنق المرتد بالسيف تحز، عالم نبنيه، كل صدع فيه بشبا السيف يداوى، وأعز الناس بالعبد بالصعلوك تساوى. حينما نظلم بعضنا بعضاً يأتي من يظلمنا، احفظوا هذه الكلمة، وحاشا لله أن نعدل فيما بيننا ثم يأتي من يأخذ أموالنا. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ:
((أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ....لَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوّاً مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ))
[ابن ماجه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ]
 أكبر مخزون نفط في العالم في العراق، صودر كله:
((...لَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوّاً مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ))
 هذا الحديث من دلائل نبوة النبي.
إذا خفت من الله فيما بينك وبينه ما كان لله أن يخيفك من أحد :
 أنت لست مكلفاً أن تعدل بين الأمة، مكلف أن تعدل بين أولادك، وإن كان لك عمل أن تعدل مع موظفيك فقط، هذا الذي تحاسب عليه، وأن تعدل بين زوجتيك، اعدل فيما أقامك الله عز وجل، قال له: أشهد غيري فإني لا أشهد على جور، حينما نعدل نستحق أن ننتصر، وحينما يظلم بعضنا بعضاً يأتي من يظلمنا، ويسحقنا، ويأخذ أرضنا، وثروتنا، وكرامتنا، وثقافتنا، وديننا.
 أقول مرة ثانية أيها الأخوة: إذا خفت من الله فيما بينك وبينه ما كان لله أن يخيفك من أحد، وإذا لم تخف من الله إذا كنت قوياً فجأة تنقلب الموازين، أرأيتم كيف يؤتي الله الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، أرأيتم؟ إن لم تخف من الله فيما بينك وبينه يخيفك من أحقر خلقه، أما إذا خفت من الله فيما بينك وبينه ما كان لله أن يخيفك من أحد.
 أيها الأخوة، أتمنى أن نعدل فيما بيننا، في أسرنا، بين أولادنا، مع موظفينا، اعدل فيما أنت قادر عليه، والله عز وجل لن يظلمك، ولن يخيفك من أحد:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَو عَلَى أَنفُسِكُمْ أَو الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾
 والله أيها الأخوة شاب كان من أخواننا في هذا المسجد، وأنا أعتز به إلى أقصى الحدود، والده أنشأ له عملاً في بلد عربي، وهو يمشي في الليل بمركبته اصطدم بسيارة، حادث طفيف جداً، فيها رجل بالتسعين من صدمة نفسية مات، فصار هذا الحادث سبب موت إنسان، اتصل بمدير المعمل، أي بالمدير التنفيذي، وهو صاحب المعمل، قال له: هكذا صار معي، قال له: لا تقلق تعال بعد ساعة إلى المخفر الفلاني، جاء بعد ساعة كل شيء منتهٍ، ضبط مكتوب كامل ولا يوجد عليه مسؤولية إطلاقاً، قال له: لا ما هكذا صار، أنا صدمته، الضبط: هو صدمه، قال له: عجيب أنا أخلصك وتوقع نفسك، قال له: أنا لن أوقع هذا الضبط، أنا صدمته، أنا لا أنجو من عذاب الله، يقول هذا المسؤول: أنا لم أشاهد بحياتي إنسان أنا أخلصه ويوقع نفسه، قال له: أوقعني لأنجو من عذاب الله، ودفع الدية الكاملة، وعين أولاده عنده بالمعمل، أنا أعتز بهذا الشاب، نحتاج إلى مسلم كهذا المسلم، لم يقبل ينجو من عقاب الدنيا ويقع في عقاب الله عز وجل، قال له: هذا الضبط غير صحيح، أنا الذي ضربت هذه المركبة وأنا تسببت بموت هذا الرجل، وأنا مستعد لدفع كل شيء علي، عندما نكون هكذا جميعاً نقيم العدل بيننا نستحق أن ننتصر على أعدائنا.
الشهادة إما أن تكون لله لإحقاق الحق أو أن تكون بدافع الهوى :
 قال تعالى:
﴿ وَلَو عَلَى أَنفُسِكُمْ أَو الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾
 يروى أن شريح أحد القضاة الكبار اختصم ابنه مع أشخاص، فقال له:يا أبت أعرض عليك هذه القضية، فإن كنت محقاً نعرضها عليك، وإن كنت ظالماً أدفع لهم ولا نتقاضى أمامك، سمع منه قال له: لا، أنت محق اعرضها علي، فلما عرضها عليه حكم عليه، قال له: كنت سألتك، قال له: خفت ألا تعطيهم حقهم.
 عندما يبلغ العدل في الإنسان أن يحاسب نفسه على الليرة، على القرش، يستحق أن ينصره الله عز وجل، بالأمانة لا يوجد حل وسط، ولا نسبية بالأمانة، أمانة أو خيانة، لذلك ورد عن بعض العلماء قالوا: والله ترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد الإسلام.
 أيها الأخوة، الشهادة إما أن تكون لله لإحقاق الحق، أو أن تكون بدافع الهوى، فقد يشهد الإنسان مع صاحب له أو مع قريب له، سمعت قصة مؤثرة جداً، إنسان يجلس في بيت، وهو موظف دخله محدود، رفع الأجرة عدة مرات، لكن أصحاب البيت أرادوا البيت بطريقة غير صحيحة فأشار عليهم أحدهم أن يتهموه بالفساد الأخلاقي، والمستأجر في أعلى درجة من الأخلاق والالتزام والطاعة لله عز وجل وغض البصر، فالأمر رفع للقاضي طلب شهادة، عندهم طالبة تستأجر غرفة في بيته قيل لها: أتشهدين أنه يفعل أعمال لا أخلاقية؟ قالت لهم: أشهد، اعتنوا فيها عناية خلال شهر، الطعام والشراب وغسل الملابس، أعلى درجة من الخدمة، لأنها إذا شهدت أنه فاسد أخلاقياً يخلى البيت، وأنا أعرفه توفي رحمه الله محافظ على أوامر الدين بأعلى مستوى ويغض بصره عن النساء، وزوجته وبناته محجبات حجاباً كاملاً، إنسان ملتزم بأعلى مستوى والتهمة أنه فاسد أخلاقياً، أي يتكلم بكلام بذيء جداً، ويكشف عورته أمام جيرانه، فهذه الطالبة وعدتهم أن تشهد معهم، طربوا لها أشد الطرب، وأكرموها إكراماً لا حدود له، يوم الشهادة قالت للقاضي: والله ما رأيت في حياتي إنساناً أعف منه، ولا أورع منه، فقيل لها: لماذا قبلت أن تشهدي معنا كما نريد، ثم رفضت؟ قالت: خفت أن تأتوا بشاهدة أخرى، وكانت شهادتها حاسمة وحسمت الدعوى لصالح المستأجر، والمستأجر ما ظلمهم أبداً لكن طمعوا، ولكن هذه الفتاة بذكائها وجدت أنها لو رفضت سيأتون بشاهدة أخرى تقبل، فقبلت أن تشهد كما يحبون هكذا قالت لهم، ثم نطقت بكلمة الحق، قالت له: والله ما نظر إلي في هذه الفترة كلها، يغض بصره، وفي بيته ملتزم، وما رأيت أعف منه، فكان الحكم افتراء على المدعي، وتحمل المدعي السجن.
اتباع الهوى يمنع من العدل :
 أيها الأخوة، أحياناً الشهادة تفصل الحق، أي تكون حاسمة أحياناً، أنا مرة دعيت إلى شهادة خارج دمشق، ولبيت هذه الدعوة بكل ممنونية، هذا حق، أنا حكمت بين أخوين وبوثيقة بخط يدي، فقدمت بعد عشر سنوات للقاضي، فطلبني للشهادة، والله بادرت بكل نفس طيبة، لأن هذا حق، أن تشهد ما جرى هذا واجب ديني ـ لكن الشهادة لله ـ أما إذا هناك أهواء، قال له القاضي: أحضر شاهداً، فالشهود واقفون في الخارج ينتظرون، قال له: تشهد معي كذا؟ قال له: نعم أشهد، ماذا تريد؟ قال له: خمسة آلاف، لا بأس، دخل فوجد مصحفاً، ويوجد قسم، فقال له: قف أريد عشرة، فلذلك يقول الله عز وجل:
﴿ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا ﴾
 ما الذي يمنعكم أن تعدلوا؟ اتباع الهوى:
﴿ وَإِنْ تَلْوُوا﴾
 أي تبدلوا الشهادة:
﴿ وَإِنْ تَلْوُوا أَو تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾
 هذا تهديد من الله عز وجل، إذا أدليت بشهادة كاذبة لصالح زيد أو عبيد، أو مقابل مبلغ كبير، وغيرت ظروف الحدث، وأضفت، وحذفت، وغيرت، قال:
﴿ وَإِنْ تَلْوُوا أَو تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾
والحمد لله رب العالمين